في كتابه "فهم القاهرة: منطق مدينة خارجة عن السيطرة" (2012)، يصف أخصائي الإسكان والتطوير العمراني، ديفيد سيمز، العاصمة المصرية بأنها "قصة نجاح"، بالنظر إلى الشروط والظروف التي مرّت وتمرّ بها.
تخطّى الكتاب التعميمات السطحية حول القاهرة كمدينة عاصفة في هذا الجزء من العالم، وعمد إلى تحليل الطرق التي قام بها 22 مليوناً، هم سكّان المدينة، في مقابل "حكومات مهملة وفاسدة"، ببناء وتشكيل مدينتهم بأنفسهم؛ فأقاموا الأحياء الضخمة والعشوائية، وابتكروا لأنفسهم حلولاً في الإسكان ليجعلوا من تجربة العيش في مدينة قاسية وصعبة أمراً محتملاً.
نسأل المعماري المصري عمر عبد العزيز، عن القاهرة كـ"قصة نجاح"، بتعبير سيمز، فيقول: "كمتخصّص في العمارة العربية، يُمكنني القول إن كافّة المدن العربية القديمة هي تجارب ناجحة في كيفية تعامل الناس مع البيئة وظروف الموقع؛ فأحياء القاهرة القديمة وصنعاء وجدّة القديمة وحيّ القصبة بالجزائر ودمشق وكربلاء وغيرها، هي نتائج جيدة جداً ونماذج رائعة لحسن اختيار السكّان إدارة أسلوب حياتهم. المدن عموماً تنقسم إلى مخطّطة وتلقائية".
اليوم تُواصِل القاهرة الصاخبة العيش والتكاثر والاكتظاظ، بينما تنبت، في منطقة صحراوية على بعد 45 كيلومتراً شرقها، بذور عاصمة إدارية جديدة. أُعلن عن المشروع عام 2015 وقُدّرت كلفته بـ 45 مليار دولار، ومن المتوقّع أن يستغرق إنجازه سبعة أعوام.
نسأل عبد العزيز، عن وجهة نظره في المشروع كمعماري مصري، فيجيب: "الفكرة ليست جديدة كما يعتقد البعض؛ فمنذ بداية التاريخ وعاصمة مصر تتغيّر؛ من منف وطيبة وأون والإسكندرية والفسطاط والعسكر والقطائع ثم القاهرة منذ الحكم الفاطمي، والتي تغيّر فيها مركز الحكم أيضاً إلى القلعة ثم إلى منطقة عابدين بوسط القاهرة ثم إلى مصر الجديدة، ومنها توزّعت الإدارات والوزارات بعد احتياجات المواطنين إلى تلك الخدمات. فعلت ذلك دول كثيرة مثل نيجيريا والبرازيل والهند".
يضيف المتحدّث أن ثمّة وجهتي نظرٍ حول العاصمة الإدارية: الأولى ترى أهمية الخروج من العاصمة القديمة غير المناسبة لمزيد من الازدحام المروري والضغط على البنية التحتية والطلب على الإسكان والوحدات، مما يعني ضرورة إخراج المباني والمصالح الحكومية التي تُسبّب هذا الازدحام الشديد.
وتطرح وجهة النظر الثانية الأسئلة التالية: لماذا هذا الموقع تحديداً، وما هي الدراسات التي أوصت باختياره، وما هي الدراسات التي جعلت من نقل العاصمة أمراً حتمياً في هذا الوقت تحديداً مع وجود العديد من المشاكل الاقتصادية الحالية، ولماذا كان اختيار النماذج السكنية بمستوى اقتصادي مرتفع بشكل يعجز عنه قطاع عريض من السكّان؟
يُتوقّع أن يبلغ عدد سكّان المدينة المستقبلية خمسة ملايين نسمة، وأن تضمّ 660 مركزاً صحياً متطوّراً، و1250 مسجداً وكنيسة، ومدينة ألعاب تبلغ مساحتها أربعة أضعاف مساحة "ديزني لاند"، ومطاراً يفوق في حجمه مطار هيثرو البريطاني. يعلّق عبد العزيز حول ذلك بالقول: "المخطّط العام للمدينة أنجزه مكتب أجنبي ولم يُعرَض على متخصّصين في هندسة التخطيط العمراني، ولا أيٍّ من الجامعات".
ألا يمكن لكلفة إقامة مدينة جديدة أن تحلّ المعضلات العويصة للقاهرة الحالية وتطوّرها هي نفسها؟ يجيب المعماري المتخصّص في العمارة الإسلامية عن سؤال "العربي الجديد" بالقول: "توجد، حالياً، مشروعات لتطوير وسط القاهرة وعدد من المشروعات لإنشاء الطرق والجسور وخطوط مترو أنفاق جديدة. ولكن على سبيل المثال، منطقة القاهرة الفاطمية تعاني من الإهمال وعدم وجود مشروعات لصيانتها وحمايتها من التعدّيات، كما توجد حالياً مشروعات لإزالة كافة المناطق العشوائية غير الآمنة، لكن عمران القاهرة غير المخطّط يمثّل نسبة عالية بحوالي 60% من مساحة العمران فيها، إلى جانب مساحات كبيرة من المقابر في قلب القاهرة يسكنها قرابة مليون نسمة".
ليس التفكير في الحلول الضخمة والصحراوية على وجه الخصوص بجديد على التخطيط العمراني والتطوير في مصر؛ فقد ظهر هذا التوجه في الثمانينيات وبدت الصحراء بمثابة مستقبل التحديث والتطوير في البلاد. ويبدو هذا المشروع نسخة أكثر تعقيداً وكلفة تليق بالقرن الواحد والعشرين، ولكن لا يمكن أن نتجاهل السؤال عن منطقية المدينة الجديدة التي لم تعد توسّعاً للقاهرة الأم، بل انفصالاً عنها.
يعلّق عبد العزيز: "العاصمة الإدارية مهمّة وحتمية، ولكن هل سيصبح مصير مدينة القاهرة كمصير العواصم القديمة لمصر؟ فقد خُرّبت الفسطاط ودُمّرت طيبة وأُحرقت وانتهت منف ولم يبق من آثار أون إلا مسلّة واحدة. هل ستتحقّق نبوءة أحمد خالد توفيق في رواية "يوتوبيا"؟ كي نصنع مدينة ناجحة لا بد من إشراك السكان في تخطيط مدينتهم".
حول العاصمة الإدارية الجديدة، ينظّم مشروع "حلول للسياسات البديلة" في الجامعة الأميركية بالقاهرة، محاضرة بعنوان "الرفاهية المشوِّهة للمساحات اللامتناهية: عاصمة مصر الجديدة، المدن الجديدة، المناطق الصناعية الجديدة"، يلقيها ديفيد سيمز عند السادسة من مساء غدٍ الأحد.