مرسد بربر.. من ريف البوسنة الهادئ إلى سربرينيتسا المظلمة

29 مارس 2019
(من المعرض)
+ الخط -

يُعدّ التشكيلي البوسني مرسد بربر (1940 - 2012)، أحد أهم ممثلي الفن البوسني الهرغوفيني في النصف الثاني من القرن العشرين، وأحد القلة من فناني البوسنة الذين أثارت أعمالهم التعبيرية اعتراف المشهد الفني العالمي.

أمس، افتُتح معرض لأعمال هذا الفنان في "المؤسسة العامة للحي الثقافي - كتارا" في الدوحة وسيتواصل حتى 28 حزيران/ يونيو المقبل.

ينتمي بربر إلى فترة استثنائية من تاريخ البوسنة والهرسك الثقافي المعاصر، وقد استلهم في أعماله الكثير من أساتذة الفن في أوروبا من عصر النهضة وبشكل خاص أسلوب "الآرت نوفو" الذي أصبح ذائعاً بين 1890 و1910.

أعمال بربر بالعموم غنية بالتدرج اللوني الذهبي، وكثيراً ما ذهب في لوحاته إلى تمثّل فنانين مثل بييرو ديلا فرانشيسكو، وغويرسينو، وفيلاسكيز، وصولاً إلى كليمت، إلى جانب رسامين يوغوسلافيين مثل بوكوفاك ويوركيتش.

كان بربر بمثابة مؤرخ بصري للبوسنة، رسم شظايا بلده، وعكس التاريخ الثقافي متعدد الطبقات. في لوحاته ثمة رحلات عبر المناظر الطبيعية الخيالية للبوسنة إلى سربرينيتسا المظلمة.

تاريخ البوسنة الذي يظهر في لوحاته، هو المحرك الأساسي لتاريخه الشخصي وتعقيدات سيرته الذاتية، فبعد أشهر قليلة من ولادته عام 1940، وبسبب المذبحة الكبيرة التي وقعت في بتروفاك في الأربعينيات، وصلت عائلة البربر إلى بانيا لوكا كلاجئين هرباً من القتال مع امتداد الحرب العالمية الثانية إلى البلقان.

وفي بانيا لوكا، حاولت العائلة إعادة تكوين حياتها، فعمل والده في صالون لتصفيف الشعر للنساء وسط المدينة، وكانت والدته تعمل في مجال الحياكة، وأصبحت في فترة قصيرة إحدى أشهر النساجات في البوسنة، فقد عملت في تقليد السجاد البوسني، الذي له جذور عميقة في الأناضول، وأنشأت مدرسة لنساجي السجاد في نهاية حياتها.

ورث بربر الشاب موهبة والدته الفنية؛ أصبحت مهاراته كرسام واضحة منذ صغره، وفي مراهقته كان ينجز رسومات لافتة على الورق. في عام 1959، بدأ دراسة الفن رسمياً أكاديمية الفنون الجميلة في ليوبليانا سلوفينيا.

خلال وقت قصير لفت إليه الإنظار، وشارك في عام 1961 في "بينالي ليوبليانا للفنون التخطيطية"، وهو أحد الأحداث الفنية المرموقة في تلك الفترة، وعُرضت أعماله إلى جانب أعمال لفناني غرافيك رائدين من جميع أنحاء العالم.

أظهرت الرسوم والمطبوعات المبكرة لبربر تأثير الدراسة فيه من حيث التقنية، ومن ناحية أخرى اهتمامه الشخصي بالتقاليد الثقافية باستخدام التعبير البصري الحديث.

لم يكن المشهد الفني في يوغوسلافيا السابقة، يتسم بأي شيء يشبه الواقعية الاشتراكية السوفياتية، بل كان أقرب إلى الوقوف في منتصف الطريق بين الواقعية الاشتراكية والتمسُّك الفاتر بأساليب الحداثة.

من هنا فإن عدداً قليلاً جداً من الفنانين تمكنوا من خلق سمعة لأنفسهم خارج منطقتهم، وكان نجاح بربر في الخروج من هذا الوضع استثنائياً، وحقق مكانة وسمعة كبيرتين في السبيعينيات والثمانينيات.

جاءت التسعينيات وعرفت يوغسلافيا واحدة من أفظع الحروب التي مزقت حياة بربر الشخصية والمهنية على نحو مفاجئ، حيث جرى تدمير محترفه في تلك الفترة، وهربت عائلته على متن طائرة نقل تابعة للأمم المتحدة.

أعاد الفنان بناء حياته، فأنشأ استوديو جديداً في زغرب وآخر في دوبروفنيك، ومع ذلك، واصلت ذكريات الحرب مطاردته، لكنها قدّمت مادة جديدة لفنه. ينبع إلهامه في الغالب من العالم الداخلي للبوسنة ومن ماضيها العثماني والتجربة المأساوية لشعبها.

تتضمن رسوماته ونقوشه وطباعته صوراً أنثوية أنيقة، استند في تجسيدها إلى نماذج عصر النهضة، وتحدّى فيها أساتذة مدرسة القرن السادس عشر في مدرسة البندقية؛ سنجد لوحة للخيول التي تذكر بحبه للحياة الفلاحية في الريف البوسني.

الحصان بالنسبة إليه رمز، له العديد من التمثلات والمعاني في الثقافات المختلفة، لكن بالنسبة إلى البوسنة فإن الحصان هو العبور الشاق في جبال البلقان، وهو الجنازات والحروب والزواج والسفر والهروب، بحيث يمثل سيرة الشعب البوسني.

في آخر سنوات حياته، رسم بربر سلسلة أعمال كرسها للمذبحة الوحشية في سربرينيتسا، والإبادة الجماعية التي تُعد أسوأ جريمة في حروب البلقان، حيث قتل أكثر من 8000 بوسني، معظمهم من الصبية والرجال.

وصف الفنان المأساة في سريبرينيتسا بأنها "موضوع كبير قديم ومقدس من التراتيل"، وعمل لسنوات على تصويرها في أعماله، فجمع تقارير الطب الشرعي وصور الصحف وتسجيلات الفيديو والوثائق والكتب.

أصبحت هذه السلسلة بالنسبة إليه تمثيلاً، ليس فقط للتراجيديا، بل لموت التعايش والتعددية الثقافية التي عرفتها البلقان لعدة قرون رغم كل العداوات العرقية والدينية.

المساهمون