يستند كلّ من الشعر والسينما إلى مرجعيات خاصّة قد لا تتقاطع في جميع مكوّناتها؛ فبينما يظلّ الشعر عصيّاً على الانتقال إلى عالم حسي بصري، تحتكم السينما إلى شعرية الصورة، لكنّها قد لا تصل إلى سبر أغوار القصيدة.
هذه العلاقة الملتبسة والمركّبة بين العالمين هي موضوع ندوةٍ بعنوان "الشعر والسينما" انطلقت أمس وتتواصل اليوم في الرباط بتنظيم من "بيت الشعر" في المغرب، بالتعاون مع "الجمعية المغربية لنقّاد السينما"، وبمشاركة عدد من النقّاد والسينمائيّين والشعراء.
يستعين المشاركون بنظريات التلقّي والدراسات السيميائية الحديثة للظواهر الفنية لتفكيك العلاقة بين الشعر والسينما، والتي يعتبرها منظّمو الندوة "مثيرةً للالتباس، بسبب انتفاء مبرّرات ظاهرةٍ وواقعية لهذه العلاقة المفترضة".
ينبني هذا الطرح على افتراض قوامه تغيُّر مفهوم الشعر نفسه؛ إذ أضحى قادراً على التقاط المشهدية وخلق نقاط تماس بينه وبين الكتابة بالصورة وتقنيات التركيب والتوليف، والحس البصري الطافح، خصوصاً في تجارب قصيدة النثر، حين تنفتح تجارب سينمائية على عوالم الشعر، سعياً للخروج من الأنماط السينمائية السائدة، وبحثاً عن عوالم أخرى للتخييل السينمائي.
نتذكّر، هنا، بعض التجارب السينمائية العالمية التي حاولت أن تجد لغةً مشتركة بين الشعر والسينما؛ منها تجربة الكاتب والشاعر والمخرج الإيطالي بيير باولو بازوليني (1922 ـ 1975)، وأيضاً تجربة الكاتب والشاعر الفرنسي جاك بريفير (1900 -1977) الذي انتقل إلى السينما كاتباً للسيناريوهات ومُخرجاً.
صرّح السينمائي الفرنسي جاك كوكتو ذات مرّة: "محكوم على السينما أن تكون شعرية"؛ وهو كلامٌ يحيلنا إلى عدم القدرة على نفي التداخل بين حقلَين أحدهما مرئي وآخر غير مرئي، فهل العبور من الشعر الى السينما، أو العكس، قادرٌ على صياغة مسافة جديدة ثالثة، تؤدّي إلى شعرنة الصورة السينمائية وعبور القصيدة إلى فيلم؟ أم يكفي القبض على مرتكزات الاستفادة لكليهما من الآخر؟ وفحص طرائق استفادة الشعر من فن السينما وتقنياتها التعبيرية وتوظيف ذلك في مكوناته الفنية؟ وفي المقابل استكناه تحوّل الشعر مادة سائغة تستوعبها لغات السينما وتقنياتها؟
وبما أن الحديث هنا هو عن حقلين تعبيريّين شبه متباعدين، تحاول الندوة إيجاد هذا المُتخيَّل المشترك، بين الشعر والسينما، متمثّلاً في "سينمائية الشعر" و"شعرية السينما". غير أنَّ العبور من اللغة إلى الجانب الحسي قد لا يعطي بالضرورة صورة عن إمكانية اندماج أو تلاقي، بل يعمّق من هذه الحالة من الالتباس. لكنهما معاً، الشعر والسينما، يرتبطان سوياً بمقوّمات داخلية قد تكون متشابهة تماماً. فيمسي عالم اللغة وعالم الصور يلتقيان في استعارات تخلقها الصورة الشعرية والسينمائية سوياً.... سحرهما وقدرتهما على خلق تلك الرجّة الانفعالية والعاطفية لدى المتلقّي.
تضمّن برنامج أمس مائدةً مستديرة حول "الشعر والسينما"، شارك فيها كل من رشيد المومني، وحمادي كيروم، وفؤاد سويبة، وأمينة الصيباري، وجلسةً علمية بعنوان "الشعر والسينما.. المتخيّل المشترك"، بمشاركة محمد اشويكة، ونور الدين محقّق، وبن يونس عميروش، إلى جانب عرض لفيلم "ساعي البريد" (1994) للمخرج الإيطالي مايكل رادفورد، والذي تدور أحداثه في جزيرة إيطالية خلال الخمسينات، ويروي قصّة شاب تتمثّل مهمّته الوحيدة في إيصال رسائل الشاعر التشيلي بابلو نيرودا الذي كان حلّ لاجئاً سياسياً بالجزيرة، وأعقب العرض نقاش أدراه الناقد حمادي كيروم.
أمّا برنامج اليوم، فيتضمّن جلسةً علمية ثانية بعنوان "سينمائية الشعر: طرائق الاستثمار وتقنياته"، بمشاركة سليمان الحقيوي، وعبد الله الشيخ، ومحمد عابد، وثالثةً بعنوان "شعرية السينما: مقاربات نقدية ونماذج"، بمشاركة محمد البوعيادي، ومحمد الشيكر، ومبارك حسني، ومحمد طروس، وأيوب العياسي، وتُختتم أشغال الندوة بأمسيةٍ شعرية تُقام عند السادسة مساء يشارك فيها كلّ من نسيمة الراوي، ونبيل منصر، وبوجمعة العوفي، وعبد الإله المويسي، وأيوب العياسي.