الإصلاح الإملائي: أكثر من قرن في رسم الهمزة

30 سبتمبر 2018
(من "كتاب الهمزة" لرشا الأمير، رسومات: دانيال قطّار)
+ الخط -

في السنوات القليلة الماضية، تعاقبت مبادرات إصلاح النظام الإملائي في الألسن الأوروبية، وتنادى مُثقّفوها إلى تيسير قواعدها النحوية والصرفية، سعياً لتبسيط استعمال اللغة وجَسر الهوّة بين المنطوق والمكتوب، حتى تتخلّص من الشوائب التي تمنع مستخدميها من التواصل السليم والاكتساب السريع.

ويدفعنا هذا النشاط المعرفي المتجدّد في الغرب إلى سؤال بديهي: هل عرف العربُ مثل هذه الجهود اللغوية؟ لا سيما وأنّ الرأي الشائع عن الضاد، لدى الناطقين بها كما لدى متعلّميها من غير أهلها، أنَّ قواعدها الإملائية من أشدّ المباحث اللسانية تعقيداً وأكثرها استثناءاتٍ.

في الظاهر، لم تحصل تغييراتٌ عميقة بعدُ في نظام رسم الكلمات العربية. غير أنَّ اللغويّين العرب قد بادروا إلى التفكير في تبسيط نظام الضاد الإملائي، منذ نهايات القرن التاسع عشر، حين وفدت المطابع إلى البلاد العربية، ومعها ضرورة تطويع المكتوب إلى مقتضياتها. وتأكّدت الحاجة، وهي أم الاختراع، إلى هذه الهيكلة بعد أن ظهرت خطاباتٌ مستحدَثة، كالمقالات في الصحف، ومناهج التدريس في مقرّراتها، فضلاً عن وثائق الإدارة والاقتصاد.

ولذلك، كان تجديد رسم العربية من المباحث التي اجتهد فيها روّاد النهضة؛ مثل نصر الهوريني (؟ - 1874)، وجرجي زيدان (1861 - 1914)، لإيجاد حلول ملموسة تُبسِّط مبادئ رسمها وتُوحّدها. ثم أدلت الهيئات العلمية والمجامع اللغوية والجامعات بِدَلوها في هذا التفكير، فأسفرت تأمّلاتهم ومناقشاتهم، رغم ما تخلّلها من مناكفاتٍ، عن مقترحات كثيرة، تجلّت أثمارها في أكثر من مئة وخمسين كتاباً ووثيقة رسمية، تُعنَى بقواعد الرسم الإملائي وتوحيدها، عملاً بقاعدة: التطابق بين المنطوق والمكتوب، وتُقدّم حلولاً عملية لتجسيد هذا التطابق.

ومن أبرز ما انشغل به الدارسون، طيلة القرن الماضي، مسألة رسم الهمزة، إذ تختلف طريقة كتابتها حسب موقعها من الكلمة وحسب حركة ما قبلها وحركتها هي إن سُبِقَت بساكن. ومن مظاهره في حياة الناس رسم "مائة" و"مئة" على الأوراق: "مئة دينار جزائري" و"مائة درهم مغربي".

كما عُنوا برسم الألف اللينة التي تكون إمّا مَقصورة أو ممدودة حسب نوعية الفعل، وبالزيادة والحذف، فقد يُحذَف المدُّ المنطوق من الكتابة في مثل: هذا، هؤلاء، الرحمن، السموات... أو تُزادُ بعض الحروف رسماً دون النطق كالواو في "عمرو" وكألف "كتاباً" التي تعقب النصب المُنَوَّن وماضي الفعل المصرَّف مع الجمع المذكّر؛ مثل: "كتبوا".

ومن أبوابه أيضاً الوصل والفصل في مثل: "أن لا" التي تُدغَم فتصير: "ألّا"، وكذلك ارتباط الرسم بمعارف صرفية ونحوية سابقة كضرورة معرفة نوعية الفعل الناقص، هل هو يائي أو واوي؛ بحيث تُكتَب الألف مقصورةً في اليائي مثل: بكى، وممدودة في الواوي مثل: دعا، وفعل الأمر منه، وقد نرى أثره في لافتاتٍ: "لا ترمي القمامة في الشارع" أو "صلّي على النبي"، كأنها تتوجّه إلى النساء فقط!

ولبيان حجم التأليف ضمن محاولات تحديث العربية، نذكر عدداً من الكتب التي اهتمّت بمسألة رسم الهمزة وحدها، ومنها كتاب "قاعدة الأقوى لكلّ الهمزات" لبشير سلمو (1953)، و"كيف تكتب الهمزة؟" لسامي الدهّان (1971)، و"المرشد في كتابة الهمزات" لجلال صالح (1979)، و"الهمزة: مشكلاتها وعلاجها" لشوقي النجّار (1984)، و"الهمزة في الإملاء العربي: الحل، والمشكلة" لأحمد الخرّاط (1987)، و"الهمزة في اللغة العربية: دراسة لغوية" لمصطفى التوني (1990)، و"مشكلة الهمزة العربية" لرمضان عبد التوّاب (1996). ومن أطرفها "مُعجم الهمزة" (2000)، لأدما طربيه.

هذا، فضلاً عن قرارات المجامع اللغوية؛ مثل تلك الصادرة في 1960 و1978 والتي شارك فيها ثلّة من علماء اللغة وحتى من المستشرقين مثل ماسينيون.

استمرّت هذه الجهود مُطَّردة طوال التاريخ الحديث، وتأكّدت، في العقدَين الأخيرَين؛ حين سادت أنظمة المعالجة الحاسوبية ومعها مصحّحات الإملاء الآلية التي تعتمد قواعد رقمية من البيانات. فقد أسهمت جدّياً في تبسيط القواعد الإملائية وإشاعتها وأتْمَمَتها.

إلّا أن جملةً من العوائق واجهت هذه المساعي. ومنها ازدواجية الضاد بين الفصحى والدارجة، وتفشّي اللهجات المحكية وتأثيرها في رسم الحروف، حيث تختلط في عدّة مواقع؛ مثل ما يحصل بين الذال والزاي، والقاف والكاف، والغين والقاف. فاستخدام العاميات، وهي بطبيعتها غير مكتوبة، في غير مجالاتها الأصلية مثل نشرات الأخبار وخطابات الساسة، جعل بعض الناطقين بها يكتبونها حسب لهجتهم المحلية.

فَصَوْتَم "القاف" مثلاً ينطق: كافاً وهمزةً وجيماً مصرية، ثم يُكتب كما يُنطَق. وهي وضعية تجعل كثيراً من علماء اللغة يخشون أن تكون محاولة تبسيط قواعد العربية مدخلاً لهيمنة المحكيات عليها، فتفقد بذلك وحدتها التاريخية.

وقد يعود الاحتراز من تبسيط الإملاء إلى الاعتقاد السائد، خصوصاً في الأوساط الدينية، بأن رسم الحروف في العربية أمرٌ توقيفيٌّ أو مقدّس، ولا يجوز لأحد تحويره، لارتباطه برسم المصحف على الطريقة التي شهدها النبي وأصحابه وأقرّوها. وبالتالي يُصرُّ البعض على واجب المحافظة على "الرسم العثماني" من دون تغيير.

وهكذا، فإنَّ الإصلاح الإملائي ليس من مسائل العلم المحض، يهتمُّ بها علماء اللسانيات دون غيرهم، بل إنه يقع بين أكثر من دائرة: ثقافية واجتماعية ودينية. وفي ثناياها، يُرى أثر التلاعب بالعقول، ترهيباً من تعقُّد الضاد الموهوم، ومناشدةً لتعويضها بالدارجة أو بلغات أجنبية، لقطع العرب عن أصولهم الثقافية.

ولا يغربُ عنا عامل التجاذب السياسي الذي حال دون إيجاد قواعد معيارية مُوحَّدة للإملاء العربي - تبعاً للخلاف السياسي بين البلدان العربية ووجود صراعات بين أنظمتها. فالمعضلة لا تكمن البتّة في اللغة، بل في عدم تطبيق القرارات العديدة التي أسفرت عنها جهود ما يناهز القرن من المناقشات والتأمّلات، وكم من مرة وُضعت العراقيل الإدارية والبشرية والسياسية حتى لا تأخذ مقترحات علماء العربية طريقها إلى التطبيق، رغم دقّتها وأصالتها.

ومن المهم أن نذكر أخيراً أن معظم الإصلاحات، في لغات العالم، تسعى إلى التخفيف من حدّة التفاوت بين المنطوق والمكتوب. لكن، وعكسَ الرأي الشائع، فالعربية تُكتَب كما تُنطَق في الأغلبية الساحقة من الحالات، وتُشكّل أحرفها عائلات إملائية يسهل حفظُها مثل عائلة: بـ، تـ، ثـ، نـ، يـ التي لا يختلف رسم أفرادها إلا بعدد النقاط وموقعها.

ولا عجب أن عدَّ الجاحظ الخطَّ من أصناف البيان: "وهو اسمٌ جامعٌ لكلِّ شيء كَشف لك قناع المعنى وهتكَ الحجاب دونَ الضمير".


رشا الأمير وبدر الهمزات
في عام 2012، صدر عن "دار الجديد" عملٌ جريء وطريف للروائية والناشرة اللبنانية رشا الأمير، تحت عنوان "كتاب الهمزة". وهو يهدف بحسب مؤلفته إلى إعانة الكتّاب على أمزجتها وإملاءاتها: "لا حجّة والكتاب في المتناول من إلغائها أو إجلاسها حيث لا تريد لها اللغة". الكتاب قصّةٌ (بطلها "بدر الهمزات" وصاحبته الهمزة) تبدو موجّهةً للأطفال وتستعين بالرسوم والخطوط لإظهار مختلف حالات الهمزة وما يسبقها ويتحكّم في صورتها.

المساهمون