ليست مجرّد رسوم متحركة

12 ابريل 2017
(من الفيلم)
+ الخط -

في يوم عطلة، اصطحبت ابنَيَّ إلى قاعة سينما، في باريس. اختارا مشاهدةَ فيلم رسوم متحرّكة، وكنت أنوي أن أكون مجرّد مرافق، بل كنت أرجِّح الاهتمام، طيلةَ العرض، بشاشة هاتفي أكثر من الشاشة الفضّية.

ولكن سرعان ما أحسست، وأنا في القاعة، أنَّ الشريط يثير لديَّ اندهاشاً لا يقلّ عن اندهاش وَلَديَّ، بل ويفجّر فيَّ فرحة طفولية مثل فرحتهما، فتطلعت إثره إلى معرفة دقيقة بمخرجه وميزانيته وسائر حيثيات الشريط، وتشوقت إلى مراجعة آراء النقاد فيه، كما أثارَ في ذهني، بمجرّد انتهائه، العديد من القضايا مثل مكانة سينما الأطفال في المشهد الثقافي العربي، أو ما ينطبق عليه من نظريات فنية أزاولها بحكم العمل الأكاديمي.

الفيلم بعنوان "لِنُغَنّ" للمخرج الأميركي غارث ونينغس، وهو اليوم ظاهرة في عالم الأطفال، يؤدّي أدوارَه، كوكبة من الحيوانات، على مختلف فصائلها، وفيه نتابع قصة فنانٍ، من فصيلة الكوالا، يمتلك مسرحاً ورثه عن والده، ولكن أثقلته الديون، فلم يعد قادراً على تسديدها لقلة ما يتيحه الفن من الإيرادات.

وللخروج من هذه الضائقة قرّر، مع سكرتيرته، الحِرباء العجوز، ذات الهَيئة المتقادمة في لباسها وعينها البلورية، أن ينظّما مسابقة تكون جائزتها ألف دولار، وهو ما بالكاد تبقى من مُدّخراته.

غير أنها، وعند كتابة الإعلان، ارتعشت يداها وسقطت عينها البلورية على رقم الصفر في مفتاح الآلة الكاتبة، فانضاف صِفران إلى المبلغ المُقرّر ليصير مائة ألف دولار. طُبع الإعلان ووزّع في أرجاء المدينة بهذا الخطأ، فاستجاب له عشرات الحالمين بقطع مشوار في عالم الفن.

من بين آلاف المرشّحين، انتقى صاحب المسرح خمسةً لأداء عرضٍ ستقابله عوامل فشل كثيرة ليس أقلّها أن يكتشف المرشّحون بأن الجائزة التي يحلمون بها وهمية، لتتسارع الأحداث وتؤدّي إلى انهيار المشروع وبعده المسرح وبناؤه المتهرّم.

تعود هنا كل شخصية إلى عالمها، وتبدأ في اكتشاف أنَّ دوافعها تتجاوز الجائزة وفضاء العرض، فيقرّر جميعهم استنهاض صاحب المسرح من جديد حتى ينجزوا العرض الذي سيحقّق نجاحاً باهراً.

جمع الفيلم بين البساطة والتشعّب، وتعدّدت مستويات تأويله، وضمن ذلك استدعى - في رشاقة - قيم العزيمة والثقة بالنفس، وكانت شخوص الشريط كلها من الحيوانات (فيلة، فأرة، غوريلا، قنفذ، خنازير، أسماك...) تنحدر من كافة الفصائل الكبرى والصغرى، الوحشية والأليفة، وقد تم اختيارها مع رعاية المناسبة التامة بين الشخصية الحيوانية وما يحمله عنها المخيال الشعبي-العالمي من صور وتمثلات.

ووراء كل شخص ثمة قصةٌ أخرى كاملة، منفصلة عن الحبكة الرئيسية ومندمجة فيها، وهو استعمال لآلية الصَندقة، فتُدرج كل قصة داخل القصة-الأم، لِتتعَدَّدَ مستويات السرد وتتراكب في دوائر طريفة: أب مع ابنه، أم لخمس وعشرين صغيراً، صديقان عاشقان، صاحبة بنك على المال حريصة...

وليس الشريط مجرّد قصة رسوم متحركة، زاهية الألوان، بل يتوجه إلى الكبار أيضاً ويخاطب عقولهم عبر متانة التركيب القصصي الذي يكشف عن مكانة الفنّ في السياقات الرأسمالية المعاصرة، ويثير ذكريات المشاهدين بفسح المجال أمام خيارات موسيقية قديمة، فقد استرجع أصواتاً مثل ستيفي وندر وكوين...

وقد يكون الحديث عن هذا الشريط مناسبة لإثارة قضية أفلام الأطفال في العالم العربي التي غالباً ما يغيب عنها النص المتين والحبكة المحكمة وتفتر فيها الصنعة التقنية، ويظل خطابها مباشراً وسطحياً، تهيمن عليه المضامين الأخلاقوية، وهو ما يعكس أزمة هوية لدى المجتمعات العربية المتحولة، بل وينقلها إلى جيل الصغار، عبر الصور المتحركة.

وتدعو نجاحات مثل هذه الأفلام، الآتية من أميركا واليابان وأوروبا، إلى ضرورة القطع مع السطحية في مخاطبة الأطفال، فالفيلم الجيّد ينتزع انتباه مشاهده مهما كان عمره. لقد أصبح ضرورياً أن يعتني سينمائيونا (وحتى صنّاع الأدب) بالوسائل الأسلوبية التي تساعد في بناء حبكة عميقة ورشيقة، ومزاوجة الأفكار والرسائل الكبيرة بالخفة ووسائل الإضحاك، حتى نقطع مع أخلاقيات كليلة ودمنة. وسننتظر كيف سيدبلج شريط "لنغنِّ".


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس
المساهمون