"الجزائر تُطلق بوّابةً ضخمة للتراث الثقافي". كان هذا واحداً من عشرات العناوين الصحافية التي تناولت خبر إطلاق وزارة الثقافة الجزائرية، مطلعَ العام الماضي، موقعاً إلكترونياً باسم "بوّابة التراث الثقافي الجزائري"، كأوّل منصّةٍ رقمية، في البلاد، تجمع وتوثّق أشكال الثقافة الجزائرية، بشقَّيها المادي وغير المادي، بهدف "جعل جملة الإنتاج الثقافي الوطني في مُتناوَل الجميع، من خلال الكتب والمخطوطات والأعمال التشكيلية والصور الوثائقية والتسجيلات الصوتية والسمعية البصرية وغيرها من الوسائط"، كما نقرأ في رسالةٍ للرئيس عبد العزيز بوتفليقة وجّهها إلى الموقع، عشية انطلاقه، ولا تزال نسخةٌ مصوّرةٌ منها، باللغتين العربية والفرنسية، تحتلّ واجهته الرئيسية.
بدا إطلاقُ "البوّابة" بمثابة تحقيق حلمٍ طال انتظاره، في ظلّ ضآلة المحتوى الثقافي الجزائري (خصوصاً باللغة العربية) على الشبكة العنكبوتية، وغيابِ مراجعَ ومعطياتٍ كافيةٍ حول الثقافة الوطنية على الإنترنت؛ إذ لا يكاد الباحث يعثر على أيّة معلومات أو صورٍ لشخصيات وأعمال ومواضيع ثقافية جزائرية. غير أن اللافت هو انطلاق البوّابة بمحتوىً شبه فارغ.
قد يُعزى الأمر إلى أن موقعاً إلكترونياً من هذا النوع يتطلّب حشد إمكانياتٍ مادية وبشرية، وإعداد دراساتٍ متخصّصةٍ، وبذل جهودٍ حثيثة في البحث والجمع والتحقيق، وهو ما يتطلّب وقتاً. هكذا، سيقدّم القائمون عليه وعداً، في مقدّمةٍ تعريفية نُشرت على الموقع، غداة إطلاقه في شباط/ فبراير 2016، بالعمل على إثرائه بشكل تدريجي: "إننا ننوي القيام، قبل نهاية سنة 2016، بإدراج عشرات الآلاف من المراجع التي ستُفرَّق بين مختلف خانات البوابة".
غير أن 2016 انقضى ويكاد 2017 ينقضي هو الآخر، والموقع لا يزال على حاله؛ إذ تكفي زيارةٌ سريعة إلى "البوّابة" (www.patrimoineculturelalgerien.com) لنكتشف أنها لا تُفضي إلى شيءٍ تقريباً.
لنتجاوَز الجانب التصميمي المتواضع للغاية، ولنذهب إلى المحتوى الذي يتوزَّع بين ثمانية أقسام رئيسية؛ هي: "التراث غير المادي"، و"التراث المادي"، و"المتاحف"، و"المسرح"، و"السينما"، و"الشعر"، و"الكتب"، و"موسيقى الجزائر"، ويتفرّع كلُّ واحدٍ منها إلى مجموعةٍ من الأقسام الفرعية.
تصفُّح أقسام الموقع سيكون أشبه بالدوران في حلقةٍ مفرغة؛ إذ إن عدداً كبيراً منها لا يزال فارغاً تماماً، والنقر عليها سيُعيدك رأساً إلى الواجهة الرئيسية، أي إلى رسالة الرئيس.
يتضمّن قسم "التراث المادي"، مثلاً، تسعة أقسام فرعية، هي: "الهندسة المعمارية"، و"علم العملات"، و"دراسة النقوش" و"الأنثروبولوجيا الوصفية"، و"التصميم الفكري والفنّي للمعرض"، و"النحت"، و"نحت الصخور"، و"نقش التماثيل"، و"دراسة الحصان" (المقصود علوم الخيل)، وجميعها لا تتضمّن أيّة معطيات، وهو ما ينطبق على معظم الأقسام الأخرى.
في قسم "السينما"، الذي يُتوقَّع أن يُفضي إلى قاعدة بياناتٍ تخصُّ السينما الجزائرية، لن نعثر سوى على سبعة مقاطع لأفلام جزائرية بصورةٍ رديئة؛ إذ أُخذت مباشرةً من قنوات الهواة على "يوتيوب"، بينما يُفترض نشر نسخها الأصلية أو مقاطع منها. كما أنها نُشرت بشكلٍ اعتباطي، من دون ترتيبٍ زماني أو أبجدي، ومن دون ذكر أيّة معلوماتٍ تتعلّق بها؛ كقصّة الفيلم وطاقمه وسنة إنتاجه.
وفي قسم الكتب، نجد فرعاً فارغاً بعنوان "الأدب الجزائري". في الفروع الأخرى، لن نجد كتباً جزائرية قديمةً ولا جديدة. ثمّة، فقط، بعض الكتب العربية والأجنبية المتوفّرة أصلاً على الإنترنت، والتي نُشرت هي الأخرى بلا ترتيبٍ منطقي، بينما نعثر في فرعٍ بعنوان "علماء الإسلام" على قائمةٍ تجمع الغزالي وابن رشد وأبي نواسٍ والمعرّي وابن الهيثم وابن سينا والإدريسي وابن المقفّع على صعيدٍ واحد!
النقر على أحد تلك الأسماء سيجعلنا في مواجهة مشكلتَين حقيقيَّتين: الأولى هي أن المعطيات المتعلّقة بها مقتضبةٌ جدّاً؛ إذ تقصر على معلوماتٍ عامّة عن حياتها، كما أنها لا تستند إلى أيّة مراجع أو مصادر، والثانية أنها مأخوذة حرفياً من "ويكيبيديا"، من دون زيادةٍ ولا نقصان (لم تُصحَّح أخطاؤها اللغوية حتّى). الفرق الوحيد أن معلومات الشخصية الواحدة شُتّتت بين عدّة ملفّاتٍ بصيغة "PDF". هل افترض القائمون على "البوّابة" أن الباحث عن معلوماتٍ حول تلك الشخصيات سيقفز عن "ويكيبيديا" (وهي مصدر ضعيف المصداقية في جميع الأحوال)، ويفضّل "التنقيب" عنها في متاهات الموقع؟!
وربّما لتوفّر المواد الصوتية وسهولة رفعها، سنعثر على بعض المحتويات المتعلّقة بالبرامج والمسلسلات الإذاعية في قسم "التراث اللامادي"، وبالموسيقى الجزائرية في قسم "المكتبة الموسيقية"، لكن مع ترتيبٍ عشوائي وغيابٍ تامّ للمعلومات التاريخية والتقنية التي من شأنها الإضاءة على تلك المواد.
لا معلومات دقيقة عن الميزانية التي رُصدت لإنجاز المشروع؛ إذ لا أحد تطوّع بتقديم أرقامٍ حول ذلك. لكن الأرجح أنه، كما جميع المشاريع الرسمية التي توصَف بالضخمة، كلّف ميزانيةً كبيرةً.
الغريب أن "البوابة"، التي لا تزال فارغةً بعد قرابة سنتَين من إطلاقها، أُنجزت بالتعاون بين عددٍ من المؤسسات والهيئات الرسمية (وكالة الأنباء الجزائرية، والإذاعة الوطنية، والتلفزيون الجزائري، ومركز البحث حول الإعلام العلمي والتقني). والأكثر غرابةً، أنها تشكّل "ثمرة عشر سنواتٍ من العمل الذي جُنّد له قرابة ستّين شخصاً؛ بين مترجمين وإنفوغرافيين ومطوّري برامج ومتخصّصين في الفيديو والإعلام والإعلامي"، كما ورد في خبرٍ لوكالة الأنباء الجزائرية.
أيّاً كان، فالمؤكّد أن "البوّابة"، بمحتواها وشكلها الحاليَّين، لا تعكس النتيجة المتوقَّعةَ من عملٍ استمرّ عشر سنواتٍ و"جُنّد" له عشراتُ الموظّفين واشتركت فيه أربع مؤسّسات حكومية على الأقل، ولا تؤدّي الهدف المعلن عنه؛ والمتمثّل في "رقمنة وتوفير أكبر قدرٍ ممكنٍ من مكوّنات الثقافة الجزائرية، بغية إبراز ثرائها وتنوّعها، وجعلها في متناول مستعملي شبكة الإنترنت، خصوصاً الشباب منهم".
بل إن الموقع يعكس حالةً متقدّمةً من الاستسهال والعبث في مجالٍ يتطلّب العمل وفق منهجيةٍ علمية تبدو، هنا، الغائبَ الأكبر لصالح السرقة الأدبية (حالة الغرف من "ويكيبيديا") والنقل والجمع العشوائيّين لأيّ شيء. وهكذا، فإن وجوده، بشكله الحالي، هو أسوأ من غيابه؛ إذ ارتهن إلى الحلول السهلة. كأن الهدف هو القول "إننا أطلقنا بوّابةً ضخمةً"، وانتهى الأمر؛ بما أن لا أحد سيسأل، كما جرت العادة، عن مضامينها وجدّية وجدوى ما تُقدّمه، بل إن لا أحد سيتحدّث عنها أصلاً؛ إذ يبدو أن القائمين عليها أطلقوها ثمّ نسوا الأمر.
_______________________________________
غياب مزدوج
إلى جانب ندرة المواد المتعلّقة بالثقافة الجزائرية على الإنترنت، لا توجد الكثير من المؤلفات التي اهتمّت بالتوثيق لهذا المجال. موسوعة "تاريخ الجزائر الثقافي" (1998)، للمؤرّخ أبي القاسم سعد الله (1930-2013)، واحدةٌ من الأعمال القليلة التي تحفظ ماء الوجه؛ إذ توثّق للثقافة الجزائرية من 1500 إلى 1962م، لتكون أهمّ وأضخم تصنيف في مجالها. المفارقة أننا لا نعثر على معلوماتٍ كافيةٍ عنها على الشبكة العنكبوتية.