ضوء طازج.. ضوء عتيق

28 سبتمبر 2016
كمال بلاطه / فلسطين (تفصيل من لوحة)
+ الخط -

يسافر الضوء من سطح الشمس إلى كوكبنا في رحلة سريعة ومريحة لا تستغرق أكثر من ثماني دقائق. نفتح أعيننا كل صباح، ونستقبل ضوء النهار بمختلف حواسنا، وبانطباع قارّ بأن ذلك النور طازج حديث المولد. أهو فعلا كذلك؟

الحقيقة أنه قبل أن تسطع على سطح النجم في كل الاتجاهات ويصلنا نصيبنا منها على متن أشعة مكوكية، تولد جزيئات الضوء في باطن الشمس، لتبدأ حينها رحلةٌ أولى للضوء، طويلة وعسيرة، من مركز الشمس إلى سطحها، رحلة زمنها ما بين 10000 و50000 سنة.

إن ضوء الشمس الذي يجبر الضباب لينقشع على الطرقات، يجفف ثياب أفراد العائلة على حبل الغسيل، يجعل حوض الحبق يبتسم في فناء الدار، أو سكينا مشحوذة تلمع في الظهيرة، ينعكس على حرشف سمكة ليدفئ عين صياد وحيد في عرض البحر، ذلك الضوء عمره آلاف السنين. أمّا أحدثه، أكثره معاصرة للإنسان، فعمره على الأقل عشرة آلاف سنة.

هذا يعني، في ما يعنيه، أن ضوء الشمس الذي نشأ في عهد سومر، أو في زمن الطوفان، أو يوم ولد جلجامش أو توت عنخ أمون، ذلك الضوء لم يصلنا بعد. لم نَرَ بعد نور تأسيس روما، ولا فوتونات انتحار كيليوباترا، ولا أشعة موت الحسن الثاني.

يلزمنا تاريخ بشري ثان، الحضارةُ الإنسانية كاملةً، تلزمنا من جديدٍ كلُّ الحروب التي خاضتها الشعوب على مدى الأزمنة، حتى نقول ذات صباح رائق، ونحن نتناول فطورنا على سطح مقهى مشمس: هذا الضوء الذي يداعب وجهنا، ولادته من ولادة الزراعة، أو الريّ، أو الهيروغليفية، أو موزار، أو حدائق المنارة...

عتيق إذن ضوءُ الشمس، غير أنّ ثمة حولنا ضوءا أقدمَ منه بكثير، إنه ضوء التشكل الأوليّ للكون، وعمره مليارات السنين.

لنذَكّر بدءا بأن الضوء لم يولد بولادة الكون، بل إنه ظهر بعد نحو 380 ألف سنة من البيغ بونغ. طيلة تلك المدة، لم تكن الجزيئات الضوئية أو الفوتونات غائبة، لكنها ظلت محبوسة داخل فقّاعة الكون البدئية، التي كانت تحمل في أحشائها خلطة شبيهة بحساء ساخن جدا لا تقل حرارته عن مليارات الدرجات... البروتونات والإلكترونات كانت أيضا موجودة، ونشاطها في تلك الفترة كان في الواقع سبب تأخر ظهور الضوء، إذ كانت تفرض نوعا من الحجر على الفوتونات، مانعة إياها من مغادرة الفقاعة، كما تمنع يد فظة طائرا صغيرا من التحليق بجناحيه الغضّين... بعد بضع آلاف من السنين، أي بعد لمحة بصر بمقياس كون عمره يربو على 14 مليار سنة - إن صح الحديث طبعا عن البصر في وقت لم يكن الضوء قد نشأ بعد.

بعد تلك الهنيهة إذن، وبفضل انخفاض نسبي كاف لدرجة الحرارة، تمكنت الفوتونات من التخلص من جبروت البروتونات والإلكترونات، إذ انبرت هذه الجزيئات الأخيرة لعمل مشترك أهم: خلق الذرات، بدءا بالهيدروجين والهيليوم...

تخيلوا فوتونا سجينا يحرسه إلكترون وبروتون، فلما انشغل سجّاناه عنه بالحديث تمكن من الهرب... لا أدري إن كان محمد برادة يدرك، وهو يختار عنوان روايته المعروفة، أن الضوء في عموميته وفي أصله "هارب". هكذا ظهر الضوء إذن لأول مرة.

كان ذلك الانبجاس الأولي عظيما، كان تدفقا هائلا ساح من خلاله الضوء في كل الجهات. المدهش أن ذلك الضوء لا يزال حيا بيننا وسيظل. في كل سنتمتر مكعب حولنا، يوجد ما يقارب 400 جزيئة ضوئية قديمة تقريبا قدم الكون... المدهش أكثر أننا نلتقطه بتلفازنا... إن تلك الحبات الثلجية التي تظهر على شاشات التلفزيون في غياب أي إشارة، 1% منها مصدره ذلك الإشعاع الكوني الأول...

نسمع كثيرا عن تلك النجوم التي يصلنا ضوءها بعد أن تكون هي قد ماتت وشبعت موتا. لنتذكر أن جزءا من نور النهار يحمل معه، بالمقابل، طفولة الكون، ابتسامته الوضّاءة الأولى...

* كاتب وشاعر من المغرب 

المساهمون