زمن مهزوم ونوستالجيا بطلة

12 سبتمبر 2016
ابراهيم جوابرة/ فلسطين
+ الخط -

لعل كل الأحاديث التي نخوضها عن "الانتفاضة الأولى"، هي أحاديث في مجملها تستدعي حنيناً من نوع خاص إلى زمنٍ أبيض نقي، والنظر إلى الأبيض النقي، باعتباره أبيض نقياً، لا يتحقق إلا من خلال شرط التورّط في شبهة الألوان إلى حد التلوث والتلطخ.

هذا كلام قد يتفق الجميع عليه، لكن أمي لا! بالنسبة لها، كانت الانتفاضة الأولى بمثابة أيام الخوف على كل شيء، خوف على الزوج والأولاد من الاعتقال والتكسير والعسف والموت، وخوف على الروح من انكسار مفاجئ. ما زلت أذكر أول تعليق لها بعد دخول القوات الفلسطينية إلى قلب المدن إثر انسحاب الاحتلال منها: "نمت الليلة دون هاجس اقتحام المنزل".

عادت هواجس الاقتحام بعدها، وأضيفت لها مشاعر الرعب من قصف المنزل أيضاً بُعيد اندلاع الانتفاضة الثانية. كانت الانتفاضة الثانية أشد فتكاً من الأولى، وبدا الناس أكثر استسلاماً لمآلاتها المتسارعة، وأقل خوفاً من كل شيء.

شيئاً فشيئاً، دخلت الانتفاضة الثانية إلى مربع الحنين ذاته. المربك في أمر الحنين هذا، أن لا أحد يحن إلى أزمنة الرخاء، أنه حنين إلى أزمنة صعبة، أزمنة المعاناة الخالصة؛ مدنٌ مغلقة بالكامل، وسلامة شخصية مفقودة، "الثورة تحمل إلى النفوس البرء والتطهّر" هذا ما خلص إليه فرانز فانون في "معذبو الأرض"، قد يبدو برء النفوس وطهارتها التي طحنت أرواح تلك الأيام، سبباً معقولاً للحنين العارم إلى تلك المساحة من الزمن.

وهو الزمن، ذاته، الذي استيقظتُ فيه صباحاً، على صورٍ عرضتها نشرات الأخبار تباعاً، لشبان أجبرهم الجنود من فوق الدبابات على خلع ملابسهم بالكامل، كان إعلاني الشخصي الغاضب لحظتها، أنني لن أنصاع لأمر خلع الملابس حتى لو كلفني ذلك حياتي، كنت أردّد تلك العبارة، بينما تسللت إلى ذهني في تلك اللحظة أفكار عن التواطؤ مع الحياة والتشبث بها، فصغرت هواجس استحالة التعري إلى حدودٍ قاربت الصفر.

أزمنة الانتفاضات أزمنة بطلة في بعدها الفردي، ومهزومة في شقها الجمعي، أفضت إلى كومة من الأشخاص بتهويمات البطولة في زمن مهزوم تماماً نعيشه اليوم.

والنوستالجيا بنت الأزمنة المهزومة التي تحن إلى بطولتها الفردية البليغة، تشتاق إليها فلا ترى في يومها، أية صلة بالزمن الحلم؛ زمن كنا فيه أبطالاً حين نتجاوز حاجزاً صعباً، وأبطالاً حين نتابع المتسارع السياسي، وأبطالاً حين نستيقظ أحياءً من النوم، وأبطالاً حين نحفظ أسماء الشهداء وأسماء المدن والقرى التي نسمع باسمها لأول مرة لكارثة حلّت بأهلها، كنتُ بطلاً عندما كذبتُ على الجندي: ماذا تفعل هنا؟ مريض، وذاهب إلى المشفى! وصديقي، بطلاً حين أصيب برصاصة مطاطية إثر مواجهة مهزومة ورفض أن ينقل إلى الطبيب! كانوا أبطالاً صبيحة اليوم الأول من منع التجوال، وكنّ بطلات في الجامعات والمدارس، وبطلات وهن يقذفن بحبات البصل لشبان خنقت أنفاسهم قنابل المسيل للدموع. كنا أبطالاً، ثم تحوّلنا جميعاً، إلى دجاجات، وظيفتها الوحيدة أن تحنّ.

وإذا كانت أزمنة الحنين أزمنة مهزومة في عمارتها النفسية، فهي أزمنة مسلوبة القدرة في بنيانها الجسدي أيضاً، أحالها الزمن الجديد إلى كتل بطيئة لا تقوى على شيء، سوى الحنين. هل كان للناس أن تنشغل اليوم بالحنين إلى الماضي، لو كان في حمولة هذا الزمن ما يعوّل عليه؟

لم كان "خوفنا بطولياً" في تلك الأيام؟ على حد تعبير بطل فيلم "الرماد المشتعل"، نخاف فيه من موت بطولي، في مقابل خوف من المآلات العادية هذه الأيام. ضحكنا مرة حد الدموع، عندما فرّ أحد الجالسين على كرسي الحلاقة بنصف رأس حليق، ذات لحظة مهزومة اجتاح فيها الجيش وسط البلدة؛ ضحكنا عليه وعلى أنفسنا؛ تركض خائفاً وتضحك، تنحبس الأنفاس من الخوف وركض المسافات الطويلة والضحك، والرصاص!

يمرّ عقدٌ ونصف عقدٍ من الزمن، تتذكر، وتضحك، وتحنّ، تحنّ فقط.



* كاتب فلسطيني/ رام الله

المساهمون