مولد الرداءة

10 يوليو 2016
ماجد زليلة/ تونس
+ الخط -

لعل من الأقدار القاسية التي تتربّص بالكاتب أو الفنان عموماً هو النكران والتجاهل، حيث تزداد سماكة الهواجس التي تولد أصلاً عن فعل الكتابة. وهذا النكران إن حصل، فإن رد الفعل تجاهه لا يختلف إلا نادراً، فكل كاتب ينظر بعين الريبة إلى جحود عصره.

لا يراد من هذا الكلام تسوية الفروق الهائلة بين عبقريات صنعت تاريخ الكتابة والفن، وبين رهط يعاودون الظهور وكأنهم يشيرون إلى صحة محتملة لنظرية العود الأبدي. لكن ثقة الفنان في ما يصنع تشغلني كثيراً، وتشابه عليّ الأمر لما فوجئت بأن الثقة في المنجز نمط متكرّر بغضّ النظر عن قيمة هذه الكتابة أو ذلك الفن.

غير أن الاختلاف بصفته الجذرية يكون في عِلل ذلك النكران ومسبّباته، فالكتّاب والفنانون العِظام، وهُمْ إن أحجموا عن إدلاء دلوهم جهرةً في ما يخص قيمة أعمالهم، إلا على شاكلة بوح منفلت، أو مراسلة مع صديق حميم، فهم يلجأون لتقييم أعمالهم وتثمينها من منطلق ثانٍ يتخفى داخل شعور المرارة التي يخلّفها الجحود، إذ هي (الثقة) تصدر عن محرّك أول علّة بِدئية، عن القدر المحتم على كل عبقرية: الوحدة.

***
يدفع شعور اللامواءمة لروح العصر نحو إضافة ضلع جديد للوحدة، لا وحدة الفرد تجاه محيطه المباشر فحسب، بل تتوعّد اللامواءمة بوحدة أبدية مخيفة، غربة مضاعفة ستبتعد به نهائياً عن قُربى الإنسان في كل العصور. وعليه يمكن مثلاً فهم مقولة نيتشه التي جاءت فصلاً في سيرته الذاتية "هذا هو الإنسان": "لماذا كتبت كتباً جيدة"، لا بوصفها ثقة مفرطة أو نرجسية تتغذى على نسغ ذاتٍ منتفخة، بل بوصفها نبوءة، تذكّراً للمستقبل.

على أن المستقبل بالرغم من سطوته، ليس وحده مبرراً كافياً أو مقنعاً، فإذا حاولنا تتبّع أثر هذه النبوءة، أو الغوص في أركيولوجيا النبوءة، التي لا "تتطلب سوى خيالاً خصباً"، كما يشير سبينوزا، سنجد أنها تضوع برائحة القمم العالية، تلك التي وصل إليها العباقرة عبر تسلقهم للماضي الثقافي الذي سبقهم، فصار كل هذا، وفق تمثّلٍ وامتصاص هائلين تحت أرجلهم، وأصبح النظر وحده كافياً لقول المستقبل المتمنع بجلاء، وصارت الأبعاد الثلاثة للزمن مجرّد رجْعٍ للبصر.

أما الأسئلة التي تشغلني على الدوام وسأحاول في هذه الأسطر الاقتراب من إجابتها، فهي: كيف يتفق للعظماء والرديئين على السواء أن يُصدروا أحكاماً مبجّلة في حق أعمالهم؟ أيمكن أن تصدر هذه الثقة عن معين واحد؟ من أين تتأتى للمتهافت والرديء كل هذه الثقة في ما يصنع بيديه؟

***
إن كانت ثقة العظيم بما يصنع نبوءةً، فإن ثقة الرديء بما يفعل هي الوجه الآخر للنبوءة؛ لنقلها صراحة: ثقة الرديء دجلٌ، سحرٌ سخيف الأثر ولا شيء غير ذلك.

المثير في الأمر أن التشابه يتعدّى اللاانتماء الذي يحسّ به الفريقان ويمضي إلى وجه آخر، فإحساس الرديء بالزمن والعصر مفارق كذلك، لكن مع فروق جوهرية؛ ذلك أن الرديء في مجمله لا يهجس بالمستقبل، لا يمتدّ من الماضي، ولا ينتمي لحاضره، الرديء مجرّد تيه في اللحظة الراهنة.. الرديء جرم سماوي هجين الشكل، ضائع في الأفلاك البعيدة.

***
والحال اليوم، أن تضخم الأنا الرديئة وتورّمها، زاد انتفاخاً على انتفاخ، فالنوازل الـمُحدَثة اليوم وأشدّها الفيسبوك، قد جذب كل تلك الأجرام والحطام الفضائي فانتظمت حركة دورانها، ودخلنا بذلك عصراً جديداً: موت النص.. مولد كاتبه. مع وعيدٍ بموت القارئ إذا استقرّت الأمور على وتيرة مشابهة؛ وهكذا أضحت الدوغما البنيوية مجرّد ذكرى تليدة، فما كاد ينتصر النص Text على سياقه Context حتى انقلب هذا الأخير - مجسّدًا في شخص الكاتب حصراً - انقلاباً يشبه انقلاباتنا السياسية المعروفة.

فنحن نشهد اليوم تناسل كتّابٍ، شعراء وروائيين بالأخص، أشبه بنجوم التلفزيون الواقعي Telereality، وخصوصاً أنهم يترافقون بصدفة محسوبة مع تناسلٍ موازٍ للجوائز، جزيلها وهزيلها، والتي تشكلت حولهم كبحور من العطش.

***
غياب "فقه النوازل الجديدة"، مثل نفر اللييّكة (نسبة إلى اللايك الفيسبوكي)، وتأثيراتها على الانتماء الكاتب الرديء إلى حقول الفن والكتابة الوسيعة، أو دخول الصورة بكل ثقلها الرمزي إلى بورصة الرداءة كمنجز موازٍ، يضيف ضلعاً جديداً لمضلع التيه والضياع المستحكم.

***
لماذا يبدو النقد العربي المعاصر وكأنه غير معنيّ باستفحال الرداءة؟ ولماذا يبدو عدد من ممارسيه اليوم مسربلين بروح قبليّة وشوفينية؟ هل يمكن قيام نقد عربي -كظاهرة وليس كحالات معزولة- عارٍ من الإيديولوجيا مستمسك بالوفاء لروح الفن وحدها؟

***
"الموت أصل الجمال" هكذا يصدر الشاعر الأميركي والاس ستيفنز احتجاجه الخاص ضد الموت؛ مثل جدنا الأول جلجامش، يتحدى الإنسان اليقين بالفن، ويكتسب بفضل هذا "التجديف" خصومة الحاضر. بفضل فن صادر عن وعي تراجيدي بالأساس يتحايل الإنسان مرة أخرى على الموت، بعد أن نجح في التناسل.

لكن الفن كما هو معروف لا يتضمّن قيمة واحدة هي الجميل Le Beau بل يتعداها إلى قيمة أخرى هي القبيح Le Laid وتشكل الوجه الثاني من عملة الفن النفيسة، فهل لنا أن نقول، تكملة لمقولة ستيفنز وإرضاءً لمن يعتقدون بحتمية الرديء ودوره، بأن الرديء هو أصل القبيح؟

***
ثقة العظيم هي لحظة انعتاق من الزمن وسكنى الأبدية، الرديء هو لحظة نفاذ العدم وتسلله إلى الإبداع.

***
تنوس طواحين الرديئين في الفراغ ولا تعد بتوقف وشيك، كيف لا و"خير من تسعى بهم الأقدام" مترجلون عن الفرس روسينانتي، التي تنتظر دون يأسٍ قيام الدون كيخوته من رقدته الطويلة.

المساهمون