إعادة الترجمة: خيانة مكرّرة للمؤلّف

07 ديسمبر 2016
(تجهيز لـ داميان أورتيغا/ المكسيك)
+ الخط -

هل تشكّل إعادة الترجمة ضرورة لإعادة فهم أعمال أدبية أو فلسفية بتنا نمتلك قراءات !جديدة حول سياق ظهورها أو حضورها في مرحلتها الزمنية أو عن مؤلّفيها؟ وهل تتمثّل هذه الإعادات مقولة دريدا: "كل ترجمة إخفاق؟"، أم نحن أمام فوضى يحكمها تنافس "تجاري" بين دور النشر، أو غياب "المؤسسة" التي ترعى الترجمة بوصفها مشروعاً حضارياً وتنموياً؟

تلحّ هذه التساؤلات، في السنوات الأخيرة، مع صدور طبعاتٍ حديثةٍ من الأعمال الكلاسيكية بترجمات جديدة. "العربي الجديد" تستطلع آراء مترجمين عرب حول مدى تلمّس إعادة الترجمة للحساسيّات المتغيرّة في ذائقة القارئ ولغته، وما هي الدوافع الحقيقة وراء الإعادة، وإشكاليتها.

المترجم السوري بدر الدين عرودكي، يرى أنه لا يمكن القول إن الترجمات الجديدة أفضل أو أكثر قرباً من القارئ، إذ ترتبط المسألة على الدوام بمقدار اقتراب نصّ الترجمة من النص الأصلي المُتَرْجَم عنه، وينطبق هذا المعيار على الأعمال التي سبق ترجمتها وحاجتها إلى الترجمة من جديد، فإذا ما اكتُشف أن الترجمة القديمة لم تكن كافيةً في مدى اقترابها من النص الأصلي أو إذا كانت تنطوي على أخطاء كثيرة في فهم النصّ الأصلي، كما هو الأمر في الترجمة الفرنسية لأعمال كافكا التي تمّت عام 1938، فكان لا بدّ من إعادة ترجمتها في نهاية القرن الماضي بسبب أخطائها العديدة التي جعلت طه حسين في حينه يكتب عن أدب كافكا تحت عنوان "الأدب السوداوي"، في حين كان أصدقاء كافكا يضجّون بالضحك حين كان يقرأ عليهم فصلاً من رواية له أتى على كتابته مثلاً!

وينوّه عرودكي إلى أن كل ترجمة لعمل إبداعي، هي قراءة تُضاف إلى القراءات السابقة أو المعاصرة للعمل، لذلك قد يلعب البعد الزمني دوراً في فهم الدلالات، وهل نفهمها في ضوء عصرها أم في ضوء عصرنا؟ ذلك لأن مدى المسافة هنا شديد الأهمية، وفق رأيه.

كما يدعو إلى إعادة ترجمة بعض الكتب التي تُرجمت بشكل منقوص تحت دعاوى أخلاقية، حيث أراد مترجموها تقرير ما هو صالح وما هو طالح نيابة عن القرّاء، سعياً إلى إلغاء نتائج جرائمهم الثقافية والفكرية وإلغاء مزاعمهم الفارغة حول صلاحية النص أخلاقياً أو اجتماعياً.

يضيف عرودكي أن أخطاء الترجمة هي، من دون شك، أحد الأسباب الحاسمة في إعادة ترجمتها، على أن تتوجّه الترجمة الجديدة أساساً إلى القرّاء الجدد والفضوليين الذين سيُعيدون قراءة العمل، وبالنسبة إلى مترجم مثله فإنه سيقرأ الترجمة الجديدة ليتبيّن مدى اختلافها عن القديمة ومدى دقّتها مقارنةً بالنص الأصلي.

بدوره، يذهب المترجم المصري أحمد شافعي إلى القول إن الأخطاء لا تبرّر إعادة الترجمة، إذ يُمكن تداركها في طبعات تالية، ويضيف: "ما دمنا نتكلّم عن أخطاء لا جرائم"، وأن إعادة الترجمة لا تليق إلا بالنصوص الكبرى؛ النصوص المؤسِّسة، التي قد يحتاج كل جيلٍ إلى تأمّلها والتفاعل مع ما تطرحه من أسئلة، ومناقشة فهمه لها مثل: شكسبير، ودوستوفسكي، وجلال الدين الرومي، ودانتي، وبعض الأعمال الفلسفية، لينتفع القارئ بالترجمة الجديدة، إذا كشفت في النصّ ما لم تكشفه ترجمات سابقة.

"المسألة أشبه، مع الفارق، بظهور تفاسير جديدة للنصوص المقدّسة، فالتفاسير الجديدة تقول أغلب ما قالته التفاسير القديمة، لكنها تقول أيضاً ما لم تقله، في حين تصبح إعادة الترجمة ضرورة للأعمال التي تُرجمت بشكل منقوص مثل كوميديا دانتي على سبيل المثال، وفي حالات تشويه المترجم لعملٍ ما لأيّ اعتبارات أخرى"، بحسب شافعي الذي يرى أنّ تفضيل الترجمات الجديدة مرهونٌ بكل حالة على حدة، مثل بعض ترجمات محمد عناني لشكسبير، والتي سبقتها ترجمات أقدم، فهي من زوايا كثيرة أفضل كثيراً من الترجمات القديمة، خلافاً لأعمال دوستوفسكي، التي تُعتبر ترجمتها الأقدم هي الأفضل.

كما يؤكّد شافعي أن البعد الزمني عن النصّ الأصلي ليس مؤثّراً كبيراً في عملية الترجمة التي تُشبه القراءة، فالمترجم يُواجه من الصعوبات عند تعامله مع نص قديم ما يواجهه أي قارئ لهذا النص، ويحلّ من المشكلات ما يحلّه أي قارئ، وقد يغيب عنه ما يغيب على القارئ، لكن عمله كمترجم يفرض عليه أن يكون قارئاً دقيقاً، يبذل أقصى جهدٍ في سبيل إدراك مقاصد الكتاب وما قد يغيب من إشارات على من يقرأ لمجرّد المتعة.

المترجم والروائي الأردني إلياس فركوح، يرى أن كل نموذج يختلف عن غيره، أما الأعمال الكلاسيكية، الأكثر صموداً في تاريخ الشعوب، فإنها بالتالي يُمكن أن تخضع لأكثر من ترجمة، لأن فعل الترجمة هو فعل قراءة في الوقت نفسه يجري وفق سياق لغوي، بحيث تنطق اللغة بالمعنى بأكبر قدر من الوفاء والإيفاء، بصرف النظر عن الزمن الذي حدثت فيه. فأن نقرأ ترجمة جديدة تالية لأخرى سبقتها بسنين وعقود لنصٍّ ما، لا يعني أننا نعاينه على نحوٍ أفضل، أو نراه أقرب إلينا، مع إقرارنا بحقيقة وجود "لغة مثقّفة" وأخرى فقيرة خالية من الثقافة. وما يُقصد هنا بثقافة اللغة يتمثّل في الاغتناء المعرفي/ الثقافي المتنوّع والمتعّدد للذين يتصدّون لفعل الترجمة، ومداه، وعمقه.

ويلفت إلى أنه كلما تقادم النص وظلّ محتفظاً بقيمته، تتزايد الأبحاث عنه والتنقيب في دلالاته لتُصبح، بمرور الوقت وعملية التراكم، "قاموساً ودليل عمل" مساعداً على فك رموزه، وتفكيكاً شارحاً لمناطق غموضه. عندها، يصير من المنطقي أن تكون الترجمات الآتية من أزمانٍ لاحقة أكثر اقتراباً من النصّ من حيث شمولية المُعطى.

يقول فركوح "ليس هناك ترجمة خالية من "ثغرات ما"، تستلزم إعادتها في وقتٍ لاحق، وعبر مترجم آخر، وهو يفضّل "ثغرات" عن "أخطاء"، كون "المساحات البيضاء" المتروكة داخل النصّ ناتجة عن الجهل أو نقص المعرفة، أو الفقرات المرتبكة بسببٍ عدم التكافؤ بين اللغتين لدى مَن قام بالترجمة؛ كلّ ذلك إنما هي ثغرات فُتِحَت في جسد النصّ الأصلي كان من نتيجتها التقليل من أهمية النصّ حين قراءته، وسبباً للتشكيك فيه. عندها؛ وإنصافاً للنصّ، وللقارئ، وللإضافة الثقافية/ المعرفية الداعية لمبدأ الترجمة كفعل حضاري وتفاعل إنسانيّ، يصبح من الضروري إعادة الترجمة، خاصةّ تلك الكتب التي تبحث في أعماق الموضوعات التي تتناولها بجرأة ونزاهة وموضوعية. خاصة الموضوعات الملتبسة كونها تتصادم مع المألوف الذي "يجفل" حيال فضّ مكنوناته.

دلالات
المساهمون