فلسطين وسجالات المركزية: جغرافيا للمستحيل

19 ديسمبر 2016
من مدينة نابلس، تصوير: توماس كويكس
+ الخط -

لم تترك حالة الصراعات المتسارعة في الوطن العربي والقضايا الكبرى التي تفجّرت مع الانتفاضات والثورات الأخيرة الفرصة لالتقاط الأنفاس، ووضع أسئلة جذرية للمسار الذي تأخذه الأحداث، بل إن قضايا معينة تأخذ حيّزاً على حساب أخرى حتى أن المواطن العربي يكاد يصاب بحالة من التشتت، كمن يشاهد أفلاماً عدة على شاشات مختلفة في الوقت نفسه.

حاولت الندوة التي أقيمت قبل أيام في "المركز الثقافي الفرنسي" في القاهرة، تحت عنوان "القضية الفلسطينية إلى أين؟" لفت النظر مرة أخرى إلى فكرة صراع المركزيات في تسليط الضوء على قضايا معينة وتنحية أخرى، كحال القضية الفلسطينية، التي يرى المتحدثون أنها لم تعد قضية مركزية لدى العرب والمجتمع الدولي، رغم ممارسات الاحتلال المتواصلة حتى هذه اللحظة.

بيير بلان، الباحث الفرنسي في العلوم الجيوسياسية في "معهد الدراسات السياسية" في بوردو، تناول في كلمته المسألة الجغرافية للاستيطان الممنهج لـ "إسرائيل" ليس فقط على الأراضي الفلسطينية بشكل عشوائي، بل تحدّث أيضاً عن "هندسة الاستيلاء على المناطق ذات الثروات الطبيعية، بدءاً من الأراضي الخصبة مروراً بالمرتفعات التي تمثل مناطق تأمين وسيطرة، ثم روافد المياه والآبار"، ليدقّ ناقوس الخطر حين يشير إلى التغييب المتعمّد لاستمرار بناء المستوطنات. الأمر الذي يخلّ بالميزان التجاري وبالتالي الاقتصادي لمصلحة "إسرائيل" مما يشكل تزايداً لمعدلات الفقر والبطالة وتقلص عدد من المهن مثل الزراعة والصيد والتجارة لدى الفلسطينيين.

اعتمد بلان على رسوم وخرائط لتوضيح منهجية الاحتلال في الاستيلاء على الأراضي وبناء المستوطنات منذ عشرينيات القرن الماضي إلى اليوم، كما أضاء تقسيماً آخر هو خطة الاستيلاء على الثروات قبل وبعد "أوسلو"، للتدليل على أن "اتفاقية السلام" لم تمنع "إسرائيل" من التوقف عن المزيد من الاستيطان بل تحوّل الأمر إلى عملية مدروسة.

يوضّح بلان أن "أوسلو" لم تكن عادلة بالنسبة إلى الفلسطينيين لأنها ببساطة لم تراع الأمور الجيوسياسية ولا عدالة توزيع الثروات الطبيعية التي كانت "إسرائيل" بالفعل مسيطرة على غالبيتها بنسبة تتعدّى الـ 80 % بل كانت إسرائيل تتحكم أيضاً في نسبة الـ 20 % المتبقية التي بيد الفلسطينيين من خلال فرض تصاريح على الفلسطينيين لحفر الآبار وهي في الأغلب أذونات تعسفية تعيق حفرها وتتحكم بها.

يقول بلان إن خطة الاستيطان بعد "أوسلو" اتخذت شكلاً ممنهجاً في الاستيلاء على المناطق التاريخية وذات الإرث الحضاري خاصة في القدس والخليل التي وقعت فيها المذبحة الشهيرة، واعتبر بلان أن "هذا الشكل من الاستيطان الديني جعل عملية استعادة القدس الشرقية مستحيلة".

تبعات "أوسلو" ألقت بظلالها أيضاً على غزة حيث سيطر الاحتلال على مناطق الصيد، ثم جاء الجدار الإسرائيلي في عام 2005 ليكون استمراراً في سياسة نزع الملكية من أصحابها.

يلقي بحث بلان الضوء أيضاً على مسألة غياب مراجعات لـ"اتفاقية أوسلو" التي تتسبّب -وفقه- ليس في نزع ملكية الأرض فحسب بل في هز اقتصاد الفلسطينيين، وهو ما ينتج عنه مع مرور السنوات إفقار الفلسطينيين أكثر فأكثر، وزيادة مصاعب حياتهم اليومية لتصبح السوق الفلسطينية مغزوّة بالمنتجات الإسرائيلية والأجنبية.

وفي خاتمة بحثه أكد بلان أنه "كلما مرّ الوقت على تجاهل القضية الفلسطينية كلما أصبح هناك جغرافيا للمستحيل".

من جهته، تناول جون بول شانيولو، مدير "مركز أبحاث ودراسات المتوسط والشرق الأوسط" في باريس، في كلمته مسألة تحييد القضية الفلسطينية بعيداً عن المركز من جانب الغرب، إذ اعتبر صعود اليمين الإسرائيلي بدءاً من عام 2001 داخل الكنيست أمراً حاسماً في مسألة تحييد القضية الفلسطينية لدى الغرب.

فمع هذا الصعود بدأت "إسرائيل" في تنحية دور المثقفين والنشطاء داخلها والعاملين في مجال حقوق الإنسان، والتضييق عليهم من خلال إسكات أصواتهم بمزيد من العقوبات والإجراءات التعسّفية.

يقول شانيولو "الغريب أنه مع هذا الصعود اليميني بدأ الأوروبيون بعدم التدخّل، وبدا أن هناك نوعاً من التفاهم في مسألة حل الدولتين".

استشهد شانيولو بمقولة الكاتب الفرنسي ألبير كامو "عندما تُسمّى الأشياء بغير أسمائها، فإن ذلك يزيد حجم المآسي في العالم" للفت النظر إلى مسألة عدم الانتباه في الخطاب العربي والغربي إلى عدد من المفردات والمفردات البديلة كالمقاومة لا الإرهاب، والاستيطان وليس الاحتلال، لافتاً إلى أن العرب لا يعلمون أن "إسرائيل" لم تعد دولة احتلال وحسب، بل دولة استيطان، لأن الاحتلال قد يتم التحرّر منه لكنّ الاستيطان هو الأكثر خطورة.

وتساءل شانيولو "من يملك إرادة جعل القضية الفلسطينية قضية مركزية؛ العرب أم الغرب أم إسرائيل؟" وإن أبقى سؤاله مفتوحاً من دون جوابٍ حاسمٍ، فإن انتقاد عدم توحّد العرب والفصائل الفلسطينية يقدم جانباً من الإجابة.

قد نجد جانباً آخر من الإجابة عن هذا السؤال في تدخّلات جمهور الندوة، فمثلاً تدخّل مسعد المصري، المتحدث باسم حركة "تمرد" منطلقاً من الإشارة إلى محمد الدرة، لينتقد بعد ذلك الرئيس محمود عباس ونعيه لبيريز على حد قوله في إطار من الحماسية والصوت العالي، محاولاً إلقاء اللوم على الطرف الفلسطيني.

ومن جهة أخرى، تحدّث أحد الحاضرين الفلسطينيين عن حاله كفلسطيني عالق في مصر بعد إغلاق الحدود، كنوع آخر من إلقاء اللوم على الجانب المصري، وذلك في ظل صمت المحاضرين، وكأن هناك نوعاً من الإشارة الضمنية في ذلك الصمت إلى أنه ربما بسبب ذلك لم تعد القضية الفلسطينية مركزية.

المساهمون