بليغ حمدي: حُلم الأطراف إذ يذبل

12 سبتمبر 2015
(بليغ في بروفة مع وردة الجزائرية)
+ الخط -

لم يأت بليغ حمدي (1931 - 1993) إلى المدينة من ريف مصر، فقد وُلد في حي شبرا القاهري لأستاذ جامعي تعود أصوله إلى سوهاج، لكنه تشارك مع أصدقائه المقرّبين في الأدب والفن القادمين من الأرياف مثل الأبنودي ومحمد رشدي، آمالاً عريضة وقعوا ضحيتها وضحية تغيير لم يتوقعوا مآلاته، وإن ساهموا في صناعته، حتى استسلم لتيهه، فانقاد أخيراً إلى توزيع ألحانٍ أقلّ مستوى من بقية أعماله، ليؤمّن بقية حياته بنفقاتها الباهظة بين باريس ولندن.

كان يفوق أقرانه ذكاءً وعبقرية، وأكثرهم حبّاً للتجريب والمغامرة، تأخذه حساسية "المهمّشين" تجاه فرض مزاجه الموسيقي على "الكبار" المتمسّكين بالتقاليد الفنية منذ مصر الملكية، المأخوذة بباريس حصراً، فأراد أن يثبّت مكانه بينهم لا منتمياً إليهم، إنما ممثّلاً عن الأطراف البعيدة القصية؛ جغرافيةً وبشراً، وسينساق محمد عبد الوهاب وراءه - في السبعينيات - مقلّداً إياه في تلحينه "لولا الملامة" لوردة، أو "أنا أهو قمر 14" لعايدة الشاعر، غير أن موسيقار الأجيال سيصرّ على مقولته: "بليغ رخّص الغناء".

آمن حمدي بثورة يوليو، ومجدّها بأعماله منذ أن غنّى في أحد أعيادها، لارتباطها بأحلام الفتى الذي اعتقد أنه سيغيّر الموروث الموسيقي، شكلاً ومضموناً، وينزع الأغنية من الصالونات إلى الناس، خلافاً لعبد الوهاب الذي رأى في مذكّراته أن "عبد الناصر كان يخدع الجماهير"، وعاب على بليغ ارتباطه بالشارع، وصنّف ألحانه بأنها "ومضات من ألماس مركّبة على تركيبات من الصفيح".

لا تستوي المقارنة بين الاثنين، إذ أن صاحب "العيون السود" كان يصمّ أذنيه عن أعمال مجايليه، ويبحث عن موسيقى، يسمعها وحده، تُدَقّ لجموع فتنبض في قلوبهم الحياة؛ إيقاعاً وحركة، لذلك تصدّرت أعماله لأم كلثوم وعبد الحليم حافظ ووردة، وبدرجة أقل فايزة أحمد وشادية وميادة الحناوي الأغاني الأكثر مبيعاً، على تفاوت قيمتها الفنية، في مرحلة لم يستطع أحد منافسته خلالها، رغم غزارة إنتاجه وعمله المتّصل أياماً من دون انقطاع.

يبدو أن النزاهة دفعت الملحن محمد فوزي إلى تقديم ذلك الشاب إلى أم كلثوم، ليقوم بمهمّة تلحين "حب ايه"، ذلك العمل الذي تنقلّ بين القصبجي وزكريا أحمد وفوزي إلى أن وصل في النهاية إليه، وربما لم تكن صدفة أن الأغنية لاقت هوى في قلبه، ليهجو بها عصره بأعرافه ورموزه، وحتى الانقلاب عليه وعليهم.

ومنذ لحنه الأوّل لكوكب الشرق، ضمِن الملحّن الصاعد مقعده في الصف الأول، فانطلق في رحلته مأخوذاً بأفكار أساسية صاغت مشروعه؛ موسيقى الناس الذين يقاومون الحياة بالحياة، وهو يصف نفسه بوضوح ذات مرّة "بسيط في جُملي الموسيقية، أحرص على استغلال الإيقاع المنتظم في ألحاني"، وهو ما يفسر تأثره بالقصبجي لا غيره.

لم يجامل حمدي نخبة الفن الذين كرّستهم السلطة - ملكية أو جمهورية - قدْر دعمهم لها، وهو يختلف بذلك عن بقية الفنانين الذي جاؤوا مع ثورة 1952، وأسرفوا في مدح أم كلثوم وعبد الوهاب، تحديداً، لينالوا حظوة أو يكفّوا شراً عنهم، بل سعى إلى خلق نخبة جديدة، بتقاليد مختلفة تكسر الحاجز بين الفن والجمهور، وبين طبقات الجمهور نفسه، فقدّم عشرات الأصوات وتبنّى عدداً منها: وردة وعفاف راضي وسميرة سعيد وميادة الحناوي وغيرهن..

وليست صدفةً أن تكون النخبة الجديدة من المطربات فقط، آملاً أن يحدثن ثورةً في مجتمع محكوم بسلطة الذكور ومقاييسها للفن والجمال. لم يدرك أنه سيقع في غرام معظمهن فيخلط بين الحب والعمل، فيخطئ في كليهما، ويقع فريسةً لتناقضات لم يدرك حجمها رجل عاطفي يمتلك عبقريته، ويصادف ذلك أن يحجّ مغنّون وأشباه مغنين من أقطار الوطن العربي إليه ليعمّدهم بألحانه، فيظن حينها أن اسمه ومحبته لهم وكرمه الفائض سيصنع منهم نجوماً.

تشظّى بين آلاف الألحان التي حملت توقيعه - غلبت الرداءة على معظم نتاجه المتأخر- وبين بوهيميته: الشراب والمخدرات والنساء وجلسات الأنس التي تتسع لألف صديق، إلى أن ألقي القبض عليه بعد أن سقطت فتاة من شرفة شقّته في ظروف غامضة. وهرباً من حكم قضائي بالسجن، غادر مصر التي أحبها وظلّ ينتظر أن تبادله حباً فلم ينل تكريماً رسمياً انتظره طويلاً، إلى أوروبا، حيث قضى سنواته التسع الأخيرة.

حين ذبلت أحلامه غرِق في حزن مقيم، ولوّح بليغ بيده لعالمٍ ظنّ أنه سيغيّره، في تلحينه لوردة أغنية "الوداع"، آخر ألحانه، من دون أن يحقّق حلماً صغيراً بأن يحضر عرضاً لأغانيه على المسرح بسبب خوفه الكبير من لقاء مباشر مع جمهوره.

المساهمون