استهل مذيع تلفاز برنامجه بعبارة شائعة: "رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة". هذه العبارة تنسب عادة إلى الزعيم الصيني "ماوتسي تونغ" الذي يقال إنه اتخذها نهجاً عكس مسيرة حياته الأولى ومعناها حين سار مسيرته الكبرى، فقطع آلاف الأميال قبل أن يصل إلى العاصمة "بكين" منتصراً في نهاية المطاف.
إلا أن هذه النسبة خاطئة، لأن هذه العبارة بالذات وردت حرفياً في واحدة من قصائد كتاب "الطاو" المقدس (القرن الثالث ق.م)، وهو الكتاب الذي جمع حكمة وتجارب جماعة من النساك في وديان الصين النائية كما يعتقد عدد من الباحثين، رغم أن الأسطورة تنسب وضعه وتصنيفه لفيلسوف يدعى "لاوتسو".
موضوعنا ليس هنا، بل في هذه المصائر المتقلبة التي قادت عبارة من هذا النوع، قالها أو كتبها صيني ناسك مجهول في القرون الغابرة، إلى شفتي مذيع تلفاز ربما لا يعي من أين جاءته أو من أين جاء بها ملتقطها.
هذه المصائر المتقلبة لعبارة واحدة، ليست سوى رمز لما تعنيه الثقافة أو الحكمة بتعبير القدماء. وحيث يكثر الحديث عن الغزو الثقافي وعن الأفكار اللقيطة او الأصيلة وما إلى ذلك، يمكن أن يُرفع هذا الرمز كشاهد على مفهوم مختلف؛ على مفهوم يرى في الثقافة بحراً يصعب تجزئة أمواجه أو تفسيخ مداه. بحر تتناسج فيه العقول والأفكار والقيم الجمالية والتقاليد مهما تعددت اللغات والأجناس. ألم يكن ذلك الناسك الصيني الذي يصلنا حدسه، أو شواغل ضميره، إنساناً يخاطب إنساناً؟
هذه هي الثقافة بالطبع. الثقافة التي لا جنسية لها. ولنا في بعض قدمائنا أسوة حسنة؛ كانوا أعمق قصداً وأرحب رؤيا، وأذكى من أن يسقطوا في شراك العصبيات البلهاء التي تسقط فيها الآن الآلاف المؤلفة من الناس. فحين تحدّث ابن رشد عن علوم الأوائل من يونان وغيرهم وتعامل معها، كان يتبع مبدأ أنهم بشرٌ يتحدثون إلى بشر.
أما ابن خلدون فلم يكن يجد سبيلا للتمايز في الحقيقة الإنسانية الواحدة التي يشترك فيها الجميع، بل يجده في ظروف مضافة من تطور مستويات المعرفة وتراكم الخبرات في الفنون والصنائع.
ولم تكن عبارة "الحكمة ضالة المؤمن"، التي ضللنا الطريق إليها في الزمن الراهن، إلا لمعة برق في ظلام دامس تتموّج في أرجائه شتى العصبيات والانحيازات غير العقلانية.
ولعل حضور الصين والإشارة إلى حكمتها في التراث العربي، بل وتعليل بعض منا لتأخر المولود حديثاً في النطق والكلام ببعد المسافة التي على الروح العائدة إليه أن تقطعها قادمة من الصين، أرض الأسياد، مع كل ما يحيط بهذا الحضور من إجلال وهيبة حتى الآن، ربما هو الذي جعل حكمة الألف ميل أقرب إلينا من الكثير من الأقوال والمفاهيم القريبة مكاناً وزماناً، بل لا يجعلنا حين نسمعها نشعر بغربتنا عنها أو غربتها عنا.