ما الذي بقي من العقّاد؟

14 اغسطس 2015
جدارية في مدرسة تحمل اسم العقاد في الدار البيضاء
+ الخط -

في فترة ما بين الحربين والعقود التي تلتها، شهدت الأنساق الإيديولوجية العالمية هيمنةً دوغمائية، فانحساراً مُتسارعاً (مثل الماركسية والشيوعية والقومية والديموقراطية والليبيرالية...)، وبلغت العلوم الإنسانية والفلسفات الوجودية والأخلاقية والتحليلية أوج نضجها. تمثّل عقل عباس محمود العقاد (1889-1964)كلّ تلك التيارات والمذاهب، وعرض إلى بنى كلّ نسقٍ لتحليله والإبانة عن أسسه، فنقد مبادئه الأولى، وغالباً ما كان يُتبِع ذلك بذكر موقف الإسلام منه.

كان متمكّناً من منهجَي التحليل النفسي والسوسيولوجي وعلاقة الوعي بالأطر البيئيّة وتأثيرها في بِناء الشخصية، وكان من آثار هذا التمكّن توظيفه المعرفي للسيكولوجيا في سلسلة "العبقريات" التي كتبها في الأربعينيات، وهي صرح أدبي أقامه على التحليل النفسي للشخصيات المفاتيح في التاريخ الإسلامي.

عمّم العقّاد هذا المنهج السيكولوجي - الثقافي، فطاف عبره عَلى أقطاب الفكر الإنساني؛ حيث درس شخصيّات متباعدة في الانتماء التاريخي والجغرافي، مثل غاندي وبنجامين فرانكلين ومحمد عبده وفرنسيس بيكون وجمال الدين الأفغاني وبرنارد شو وعبد الرحمن الكواكبي، يحلّل دوافع السلوك عندهم، كاشفاً عن طبائع العلاقات بين ما خبِروه وما خلّفوه من النتائج الفكرية والممارسات السياسية والأفعال الاجتماعية والآثار الفنية.

ومن ثمّ اطّلع على جلّ التيارات والمذاهب والنظريات الفلسفية من بدء الخليقة، مروراً بنضجها أثناء الحقبة اليونانية، وصولاً إلى تراكمها في أيامه، خائضاً في كبريات القضايا المجرّدة. أيضاً، احتلت معضلة الشر في العالم حيِّزاً كبيراً في تحاليله، إضافة إلى مسائل الإدراك والمادة والروح واللغة والأخلاق.

خصّص الكاتب المصري قسماً ضخماً من آثاره للأدب إبداعاً ونقداً ومراجعةً، فدرس آثارَ الأقدمين شعراً ونثراً، وحلّل نِتاج الأدباء المصريين والأجانب، كما صاغ بنفسه عشرة دواوين شعرٍ وآلاف المقالات النقدية، فكان بذلك أحد أركان مدرسة التجديد التي حرّرت الأدب واللغة العربية من أثقال الماضي. بثّ مع جماعة "الديوان"، التي تزعّمها، روح الذاتية والغنائية.

 وكان أسلوبه في ما أنشأه رصين العبارة مَتينَها، عَقليّ المادة عميقها، يُقنع القارئ بصرامة المنطق، ويشدُّ منه العقل والوجدان بثراء الأسلوب وتماسك الحجة، إضافة إلى غنى التراكيب والمُفردات التي ابتعث المئات منها بفضل مجهوداته في الاشتقاق، والترجمة عن الإنجليزية.

تعبّر كتبه عن مرحلة كاملة من مراحل تطوّر العربية المعاصرة في إنجازٍ كلاميّ متفرّد، نقل سجلات القول من البلاغة المهترئة إلى آفاق الانسياب التحليلي لقضايا الأخلاق والسياسة والمجتمع. وله في اختيار المواضيع طرافة وفضل غرابة، فهو يخلخل آفاق الانتظار بما يجريه من الأبحاث عن ثيمات لا تَخطر على بال، فيكتب متسائلاً عن تاريخ إبليس وجُحا وسن ياتسن وقدماء السريان والعبريين.

هذه بعض محاور تراث العقّاد المترامي. والسؤال الآن عما بقي من فكره، وأيّة حصيلة تقييمية نكتبها عنه؟ وهل بقيت منه عناصر حداثية يمكن الاستفادة منها لإثراء الفكر العربي الجديد؟

كان اطّلاع العقاد موسوعيّاً. ولئن كان هذا التوجّه ميسوراً في عصره، فإنه يستحيل في عصرنا، حيث تراكمت المعارف واتسعت دائرة المكتشفات، ممّا جعل تناوله لأغلب القضايا -حسب منظور الإنجازات المعاصرة- مُجتزَءاً وأحياناً سطحيّاً.

وبما أنه كان يكتب لجمهور عريض، من قرّاء الصحف والكتب المبسَّطة ذات الانتشار الواسع، فقد وقع ضحيّة توقّعات الجمهور، تُمْلى عليه وتُضعف روح البحث النقدي لديه؛ إذ خاطب ملايين العرب والمسلمين المتعطّشين لتقوية هويّاتهم المتشظية، بعد أن عصفت بها تحوّلات النصف الأول من القرن العشرين (مثل انهيار الخلافة الإسلامية وتفكّك الإمبراطورية العثمانية واندلاع حربَين كونيتين وظهور الفلسفات العدمية، بعد موت الإطلاق واكتشاف النسبية..) فأراد أن يطوّق هذا الفكر ويعرضه عبر مقولاتٍ ادّعى شموليتها، ولكنه انقاد إلى سلطة الموروث وخضع إلى إملاءاته أكثر من خضوعه إلى صرامة التحليل، فلجأ إلى الانتقاء من أجل التبرير، وضحّى بالحقيقة في ثنايا الجدل ومتاهات البرهنة الكلامية.

كان العقاد تبريريّاً عندما نافح عن تاريخ الظواهر الإسلامية والعقائد والمعارف والأفكار التي نشأت في سياقاته المتعاقبة، يوشك أن يقع في قدريّة دوغمائية، ردّ على المستشرقين ونسف مقولاتهم و"أباطيلهم" ولم تخلُ ردوده من وهم امتلاك الحقيقة وما يفضي إليه من مجازفات ومغالطات وإسقاطات، في بعضها سطحية وتعميم، أملتهما توقّعات جماهير القراء العريضة، وسياق الحربين، بما أثارته من شكوك وجودية ومخاوف ماورائية، بعد إعلان موت الإله والعقل والأخلاق، وانتصاب العبثية الفلسفية التي غذّتها مشاهد ملايين القتلى تملأ شوارع موسكو.

حتى إن نسينا اليوم معاركه الجانبية ومقالاته في السجالات الحزبية، وإن تركنا جانباً أسلوبه الإنشائي وما تبعه من آليات التبرير والتضخيم والتمجيد لرموز العالم العربي - الإسلامي، لبقي اليوم من العقاد منهج وممارسة فكرية وروح.

فأما المنهج، فهو المقاربة التدقيقية التحليلية لكل ما صاغه العقل الإنساني من معارف ونظريات وربطها جميعاً بالنفس البشرية التي غاص في أغوارها، باعتبارها مضمار الحداثة، حجرُ الزاوية فيها فهمها واستكشاف خباياها ودرس ما يصدر عنها من فكر وحسّ وجمال، ولعلّ اعتبار الروح الخلاّقة، التي سمّاها "الوعي الكوني"، مركزَ الاهتمام في الفكر العربي الحديث تغيير لمداره وتطوير لمساره.

وأما الممارسة، فهي الاطلاع الواسع على جلّ ما أنتجه العقل الإنساني من خلال ما كتبه الفلاسفة ومنظّرو العلوم الإنسانية، يعرضه وينقده ويربطه بالعالم العربي الإسلامي في تجديده لذاته وبحثه عن توازن حضاري جديد، بعد اهتزازه زمن "النهضة". وأما الروح التي بثّها، فهي الاندهاش والتعطش لدرك حقائق الأمور مع قياسها وربطها بمنظومة القيم الانسانية المطلقة (العقلانية، العدالة، الجمال، السمو الروحي...)، كائناً ما كانت متغيّرات التاريخ، وأنّى كان مجال الدراسة والتأليف.

منهج العقاد وممارسته وروحه يمكن لها أن ترفد الفكر العربي الجديد، وتمدّه بطاقة خلاّقة إن أعيد إحياؤه. لا أقول "لكلّ عصر عقّاده" أو "ليت لنا عقّادنا"، فهذه من صيغ البلاغة الباردة التي حاربها العقاد، بل الأمل أن تستلهم الحركات الفكرية الحالية قدرته على البحث المنطقي والفهم التاريخي للظواهر، ما به تستعين على فهم الحاضر والتأثير فيه، وتلك هي سمة العبقرية التي نافح عنها العقاد وجعلها ميسم كتبه.


* أستاذ جامعي تونسي/ فرنسا

دلالات
المساهمون