إن تحرقوا القرطاس

27 فبراير 2015
رسم على أحد جدران مدينة فالنسيا، إسبانيا
+ الخط -

ينقل ألبرتو مانغويل في كتابه "تاريخ القراءة" عن بورخيس أنَّ حكومة الطاغية بيرون في الأرجنتين نظّمت مظاهرات شعبوية عام 1950 ضد المثقفين المناوئين لحكمه، وأنَّ المتظاهرين كانوا يهتفون في الشوارع: "أحذية نعم، كتب لا!".

وفي رواية الأميركي راي برادبوري "فهرنهايت 451"، تناط برجال الإطفاء مهمة إحراق الكتب، وهم ينفذون هذه المهمة باستخدام قاذفات لهب ضخمة، لا تترك في أي عملية كتاباً واحداً.

يصف الكاتب لحظات موت الكتب وكأنها كائنات حيةً وهي تتلوى تحت وقع النار اللاهبة التي تلتهمها: "كانت الكتب تقفز وترقص كطيور تشوى وأجنحتها ملتهبة بريشها الأحمر والأصفر".

إطفائي واحد من بينهم، يدعى مونتاغ، يخرج عن الأوامر بسبب امرأة يتعرف إليها، وبدلاً من أن يتابع عمله في إحراق الكتب الممنوعة، وهي بالمناسبة معظم تراث الإنسانية، يبدأ بتجميعها في حديقة بيته، ليقرأها ويحفظ عدداً منها في ذاكرته.

عندما يُكتشف أمره، يؤمر بإحراق بيته، "لتطهيره" من الكتب، في انتظار تنفيذ حكم القضاء فيه شخصياً. فينفذ الأوامر، ويحرق أحد المسؤولين عن التنفيذ، ثم يهرب إلى الريف بعيداً عن سلطة المدينة القاهرة، حيث يلتقي مجموعةً من الهاربين، ممن تلاحقهم السلطات لقتلهم والقضاء على الكتب التي يحفظونها في رؤوسهم.

"أنا جمهورية أفلاطون"، يقول له أحدهم، "وهذا جوناثان سويفت، والآخر تشارلز داروين، وهذا الشخص شوبنهاور، وذاك هو آينشتاين..".

لا يجد الروائي وسيلة أخرى لمواجهة تلك الجائحة سوى العودة إلى الشفوي، أو إلى الذاكرة التي يمكن أن تحافظ على الكتاب بعيداً عن أعين السلطة، حيث يكتفي المناوئون بحفظ الكتب في رؤوسهم.

في خاتمة الرواية يرى مونتاغ على ضفتي النهر شجرة، يسميها الروائي: شجرة الحياة. الغريب أن أوراقها مخصصة لشفاء الأمم. ربما لأن الشجرة أصل الكتب. حينئذ يفكر مونتاغ: "نعم هذه التي سأوفرها للظهيرة".

لا تكاد أمة من الأمم تنجو من هذه المخازي، ففي أثينا أُحرقت كتب الفيلسوف بروتاغوراس عام 441 ق.م. وفي القرن الأول بعد الميلاد طرد الإمبراطور أوغسطس الشاعرين أوفيد وكورنيلوس غالوس من روما، وحرّم تداول كتبهما. وأحرق الملك المنصور الأندلسي كل ما في خزائن الحكم، حين تولى السلطة، من كتب الدهريين والفلاسفة.

وفي عام 1933 أُحرق عشرون ألف كتاب في احتفال ضمّ أكثر من مائة ألف شخص في برلين، زمن هتلر، ومن بين الكتب كانت مؤلفات فرويد وماركس وزولا وشتاينبك وجاك لندن. وفي كتاب مانغويل صورة تمثل الإمبراطور الصيني شيهوانغ وهو يشاهد مجلساً لإحراق الكتب.

ليس لدينا ما يشير إلى احتمال أن يكون برادبوري قد اطلع على سيرة ابن حزم الأندلسي الذي قال، حين أمر المعتضد بن عبّاد بإحراق كتبه، فأحرقت: "فإن تحرقوا القرطاس لم تحرقوا الذي/ تضمّنه القرطاس، بل هو في صدري". وهو حل رمزي يثبته البيت التالي الذي أضافه ابن حزم في تحدي نكبته: "يسير معي حيث استقلّت ركائبي/ وينزل إن أنزل، ويدفن في قبري".

المساهمون