جبران ونعيمة والنبوّة

19 ديسمبر 2015
(جبران، تصوير: فريد هولاند، 1897)
+ الخط -

ما الذي حدث بالضبط مع جبران خليل جبران (1883 - 1931) في أميركا حتى يتحوّل إلى نبي، ولا يغدو كاتباً أبداً، ويعيش منعزلاً عن الواقع، داخل لواعج نفسه، في بلد يجعلك رغماً عنك، حتى لو كنت ناسكاً بوذياً، تغرق في الواقع؟ كيف حصل معه ذلك، أو بالأحرى، لماذا أرادت أميركا له، هو بالذات، ذلك؟

أميركا التي تشبه الأجهزة الأمنية التي تشترط الكشف عن العورة الجسدية، والوقوع في هفوات أخلاقية، والقبول بالتورّط المالي لتقبل باعترافها بوجودك على قيد الحياة، ماذا دهاها أميركا، أو ما الذي حصل مع جبران، بالضبط؟

في ذلك الزمن، واجه العالم العربي حملات تبشيرية، وكانت هناك رعاية وبعثة مسيحية روسية، في الوقت نفسه. اختلفت البعثة الروسية عن غيرها من البعثات الغربية في كونها لم تكن تبشيرية تحاول تغيير إيمان المسيحيين من مذهب إلى آخر، بل كانت تعمل على إيجاد صلة ما بين المسيحية الروسية الفريدة والخاصة، ومسيحية الأراضي المقدّسة.

هكذا، سعت إلى فتح المدارس والتعليم. من هنا، فإن أفضل خرّيجي البعثة الروسية من مسيحيي البلاد العربية هم من أعاد إحياء اللغة العربية في المناهج التعليمية، بعد أن ماتت بالإرادة العثمانية، وجلّهم أصبحوا من حفظة القرآن في طريقهم إلى تركيز العربية على ركائز ثابتة، وأغلبهم فلسطينيون.

في تلك الفترة، التي كانت فيها روسيا لا تزال تعيش زمنها القيصري، جرى ابتعاث ميخائيل نعيمة (1889 - 1988) إلى روسيا، وكان صبياً، ليتعلّم هناك. لعلّه قضى فيها نحو سبع سنوات مفعمة. بعدها، عاد إلى لبنان، ثم قضى سنوات طويلة في الولايات المتّحدة.

كان هناك مجرّد مهجري، في صحافة مهجرية، وبين رجال أعمال يحسبون أنفسهم مثقّفين، لا يعتقدون أن صفتهم هذه أهم من أعمالهم. لم يكن من الوارد أن يكرّر تجربة جبران، أو شيئاً شبيهاً.

فماذا حدث بالضبط مع جبران في الولايات المتحدة الأميركية، لكي يتحوّل إلى نبي؟

بالمقارنة بينه وبين نعيمة، نجح الثاني بثقافة روسية في الوصول إلى الأنواع الأدبية، وتمكّن من امتلاك ناصيتها، والقدرة على أن ينحرف عنها يميناً وشمالاً. أغرب ما في الأمر، أن الأنواع الأدبية في ذلك الوقت، كانت حرفة أوروبية وغربية.

لكن جبران، في عزّ ظهيرة أميركا، وانعطافتها اللصوصية الهائلة نحو سرقة أوروبا، لم يخرج بشيء؛ فلا المطوّلات التي كتبها روايات، ولا قصار النصوص قصص، ولا المقتضبات قصص قصيرة، ولا قصائده شعر، حتى رسومه ليست لوحات. كل ما تركه في عموم هذه المجالات أشبه بحكايات إيسوب.

هذا جدير بفتى تقمّص شخصية نبي، باحثاً عن نوع أدبي يحمل متنُه وصاياه العشر أو السبع، بالضرورة الدينية أو بتقاليد "الجاهلية" العربية. وهو، إضافةً إلى ذلك، لم يكن الوحيد ولا أبرع مهجري كتب وترك آثاراً في لغة أخرى.

فما الذي حدث بالضبط مع جبران لكي يتحوّل إلى نبي أخلاقي سامٍ محايد؟ هل هي الولايات المتحدة؟ أم نحن؟ أم لأنه لم يحتك بالثقافة الروسية التي عاصرها؟ لكنه لم يعرف تولستوي الذي كانت له حكايته الخاصة مع النبوة والأنبياء، إلى أن أدرك أنه مشوّش تماماً، ولم يدرك أنه ذهب إلى النبوّة من موقع قدرتها (سلطتها)، وأن غريمه دستويفسكي طرقها زاهداً من موقع الألم والعذاب الإنساني الذي استوجب كل معاني الصليب والصلب، وعدم التفكير في "الإله" بمعزل عن ضرورته المتمثّلة في التبنّي والنصرة المفترضة لجموع المعذَّبين والمضطهَدين. هذا فارق قائم، بحدّة، بين "المسيح اليهودي" و"المسيح الفلسطيني".

تولستوي تدفعه خيبة أمله بنفسه وإيمانه الذي أراد له أن يعزّز معتقداته الاشتراكية الفطرية (نوع من الفابية مؤنّبة الضمير) إلى تدبيج كتاب كامل يشكّك فيه بأن يكون المسيح وُجد يوماً ما.

في المقابل، يقدّس دستويفسكي المسيح، إله المعذبين والمضطهدين، ويقدّم في حياته الشخصية سلوكاً مناقضاً، تصبح فيه مناصرة المعذّبين والمضطهدين جزءاً من عبادة الإله الخالصة.

بين دستويفسكي وتولستوي فارق آخر مهم؛ جاء الأول من جموح المهمّشين إلى التمرّد، الذي أوصلنا بعد عقود إلى ثورة السابع عشر من أكتوبر/تشرين الأول، وجاء الثاني من النظام الإقطاعي المتخلّف، الذي كان لا يزال يحتفظ بعناصر من نظام القنانة في جوهره.

إنه فارق تميّزه الماركسية بمفردتين: "الانتماء" إلى الطبقة الثورية، و"الانسلاخ" عن الطبقة الرجعية. وهذه معضلة لم يحلّها، أبداً، تولستوي مع زوجته التملّكية صعبة المراس. وفي المقابل، لم ينتبه إليها دستويفسكي مع زوجته المحبّة المتفانية.

ولهذا نحن، يقول شيلكوفسكي، أحد أبرز الشكلانيين الروس، في نصّ يتحدّث فيه عن الرجلين وزوجتيهما، نعيش في مأزق ثقافي بين قطبين، في كل منهما موجب وسالب، وليس واحد منهما خالصاً، وعلينا أن نجد مكاناً للموصلات بينهما، لكي يكون هناك نور، ولا حريق.

في بلادنا العربية، لن يكون هناك من نور أو حريق. لأن أحداً لا يقرأ نعيمة، ومن يمرّون على جبران هم من يسمعون فيروز فقط. ليس هناك من يتأمّل ثقافتنا، ولا نقّاد يمسكون كتابتنا. هناك فقط اقتباسات ومديح وتزلّفات.

انحازت الدولة السوفييتية إلى تولستوي، ليس لشكوكه بإيمانه العميق، ولكن لالتفاتته الاجتماعية، ورفضت دستويفسكي، لأنه مثّل حالة إصرار على أن الواقع الاجتماعي الظالم وغير السوي، تسبقه نوازع إنسانية مستدامة غير سوية، وهو موقف انسحب على علم النفس (دون تقييده).

وهذا يعيدنا إلى السؤال الأول: هل كانت الولايات المتّحدة تحتاج في لحظتها تلك إلى نبي، وكل نبي غريب، ليتحوّل جبران إلى نبي؟



اقرأ أيضا:
 مكسيم غوركي.. أطول ممّا ينبغي

المساهمون