منير الكشو: فلسفة لفهم الشأن العام

06 نوفمبر 2015
(منير الكشو)
+ الخط -

لعلّ متغيّرات مرحلة كالتي تعيشها المنطقة العربية تستدعي مجالاً فكرياً مثل الفلسفة السياسية التي تشتغل على مفاهيم باتت متداولة ومجال تنازع في الحياة العامة، كالديمقراطية والسلطة والعنف وغيرها.

المفكّر التونسي منير الكشو هو أحد المشتغلين في هذا المجال، يقول في حديث إلى "العربي الجديد": "لقد اهتممت منذ سنوات بالفلسفة السياسية، لاعتقادي بأنها توفّر آليات وأدوات للتعمّق وفهم الشأن العام".

يشير الكشو إلى سؤال كان يحرجه كثيراً عن جدوى ما يشتغل عليه من نظريات العدالة والديمقراطية وحرية الفرد في فضاء سياسي مغلق. يقول "ثمّة من كان يعلن بأن المشتغلين في الفلسفة السياسية، وكذلك في العلوم السياسية، كمن يشتغلون على شيء لا وجود له، وهذا صحيح إلى حد كبير، فالسياسة بمعناها الحديث كانت شبه ميتة في تونس. ولكن بعد 2011، توضّحت أهمية ما كنا نقوم به".

يضيف "حين ننتقل من نظام استبدادي إلى نظام ديمقراطي نشعر بحاجة إلى مجموعة من الضوابط الأخلاقية التي من خلالها يمكن أن نقيّم العمل السياسي والمفاهيم التي نتعامل بها".

هنا، يلاحظ الكشو أنه "على مستوى البحث، لم يكن هناك ممنوعات في الجامعة التونسية خلال أعتى سنوات الديكتاتورية، وهذه النقطة هي التي قد تجعل فهم الحالة التونسية مستعصياً من الخارج".

يوضح قائلاً: "من مفارقات نظام بن علي أنه كان يقوم بتدريس حقوق الإنسان والنظريات السياسية، بل يتباهى بالحريات الأكاديمية. لعل العنصر الاستبدادي الحقيقي يكمن في فصل الجامعة عن المجتمع فلم تعد تؤثر في محيطها، أي أنه اتجه إلى منع الدوران الحر للأفكار. لقد كان العائق بالنسبة للمشتغل في الفلسفة السياسية هو سؤال عن جدوى ما يقوم به وجدوى المثقف والجامعة".

يحيلنا ذلك إلى سؤاله عن جدوى الفلسفة السياسية اليوم، خصوصاً حين نرى خيبة الأمل ممّا تحقّق بعد "الثورات العربية". يجيب الكشو "قبل ذلك، ينبغي التساؤل عن جدوى الفلسفة، إنها تمثل جزءاً مكوّناً من الثقافة العامة للمجتمع ودورها أن تلقّحها بالأفكار. ما نلاحظه اليوم هو أن مساهمة الفلسفة ضئيلة".

يجد الكشو في انتشار التعصّب الفكري الديني في تونس والعالم العربي، وعودة الفكر الخرافي، هزيمة للعقلانية وبالتالي هزيمة للفلسفة، وهو ما يجعله يعود إلى تفسير العلاقة بين مجالين: الثقافة العالمة والثقافة العامة للمجتمع، حيث من المفترض أن تغذي الأولى الثانية، غير أن الحلقة الواصلة بينهما تكاد تغيب، إذ يلاحظ أن حضور المفكرين في الإعلام وفي الفضاء العام ضعيف ومحدود.

ثمة نقطة يؤكّد عليها المفكّر التونسي، وهي أن الفلسفة السياسية لا يمكن فصلها عن مجال آخر هو الفلسفة الأخلاقية، فالأخيرة بحسبه تهتم بمقوّمات الفعل الفردي، والأولى تنظر إليه في إطار علاقته بالآخرين.

يتابع "حدثت تاريخياً قطيعة (لحظة ميكيافلي) حيث جرى فصلٌ من خلال إعلاء السياسة على حساب الأخلاق، فباتت السياسة تُعرّف بأنها فن الاستحواذ على الحكم والمحافظة عليه. هكذا صارت الأخلاق مرحّباً بها فقط عند الضرورة، في ما عدا ذلك فعلى الحاكم أن يستخدم سلطته وجبروته لإخضاع الآخرين".

على عكس معظم المشتغلين في الفلسفة في تونس، اختار الكشو التوجّه صوب الفكر السياسي الأنجلوسكسوني، عن هذا الخيار يقول "لفتني أن المفكرين الإنجليز قالوا مبكراً بأن الأخلاق تظل الأفق الذي تتحرك فيه السياسة، أي أنها لا بد أن تخضع للضوابط الأخلاقية المشتركة داخل الفضاء العام".

يضيف "يهيمن التقليد الفرنسي في دراسة الفلسفة على الجامعة التونسية، وتنشغل الفلسفة السياسية في المدرسة الفرنسية بمفاهيم مثل السلطة والدولة والقوة، لذلك فهي مدرسة مركّزة على فهم آليات السلطة كممارسة للهيمنة، أكثر ممّا هي منشغلة بكيفية تأسيس فضاء ديمقراطي، وهو مشغل وجدتُه في المدرسة الأنجلوسكسونية".

ومن خلال هذه الرؤية الجديدة، يتحوّل مفهوم السلطة إلى تعاون واتفاق، والتعاون لا يمكن أن يحدث بالقوة وإنما عبر التعاقد، أو كما تصوغ ذلك حنة آرنت "السلطة لا يمكن أن يمارسها شخص إلا إذا حظي بتعاون من الآخرين".

يحدث أن تتحوّل الأدوات التي من المفترض أن تساهم في تنوير وتحرير العقول إلى وسيلة لتحريف الواقع أو تبريره، وهو مطبّ يمكن أن تسقط فيه الفلسفة السياسية.

يعلّق الكشو "من المفترض أن يكون النقد هو جوهر كل نشاط فلسفي، وعند التخلّي عن هذه الملكة لا تكون هناك فلسفة وإنما أيديولوجيا، والفلسفة السياسية في أحد عناوينها الكبيرة هي نقد للأيدولوجيا".

يشير الكشو إلى إحدى إشكاليات الفلسفة العربية المعاصرة، وهي "الاهتمام المبالغ فيه بالنصوص على حساب الواقع". يلاحظ أيضاً أنه "كلما طُرح سؤال إشكالي، كالعنف أو تداول السلطة، على المفكرين العرب، إلا وعادوا في الغالب إلى تاريخ الفلسفة. هكذا ننسى أن نجيب على تحدّيات الواقع الذي نعيشه".

يشير أيضاً إلى إشكالية أخرى تتعلق بموضعة الفلسفة في الواقع العربي، إذ يرى مثلاً "أن فكر هابرماس ينبغي أن نأتي به ضمن القضايا التي يشتغل فيها، وإلا لن يكون قابلاً للإفادة منه، لأن الفكر الفلسفي هو في الأخير استجابة لحاجة مجتمع، وهذا يسري أيضاً على جون رولز، وقد سألني كثيرون لماذا لم تترجم له رغم أنك متخصّص فيه، فكنت أجيب بأنه ينبغي قبل ذلك أن نأتي بالقضايا والمفاهيم التي تحرّك فيها رولز من أجل فهمه".

يضيف "يهمّني التفكير في مسألة التلقّي، وإلا تحوّلت الفلسفة عندنا إلى تكرار وإعادة لنظريات تجيب على أسئلة مجتمعات أخرى، ونعتقد أننا هكذا نمارس الفلسفة".

سألناه "ما الأولوية؛ الترجمة أم التأليف؟"، فأجاب "هما خياران غير منفصلين، حين نسأل لماذا نترجم؟ حسب رأيي فإننا نترجم من أجل تنمية فكرنا، بعبارة أخرى نترجم من أجل تأليف كتب جيدة، أي إن الترجمة ينبغي أن تخدم التأليف، لكن للأسف فإن الترجمة في العالم العربي بلا غايات، وهي تبدو لي مجال مقاولات".

من خلال مشواره، يبدو الكشو موازناً بين المجالين، فقد ألّف كتابين "دراسات رولزية" (2006) و"رولز ومفهوم السياسة" (2007)، فيما ترجم عملين "مدخل إلى الفلسفة السياسية المعاصرة" (2010) لـ بول كيملشكا و"أخذ الحقوق على محمل الجد" (2015) لرونالد دووركين.

في ختام حديثه، يقول "قرّرت أن أنقطع عن الترجمة في المرحلة الحالية للتفرغ للتأليف". يكشف الكشو أنه سيصدر له قريباً كتاب "الليبرالية والعلاقات الدولية"، كما يشتغل الآن على كتاب حول مفاهيم الفلسفة الليبرالية.


اقرأ أيضاً: فتحي بن سلامة.. مُواطن في التحليل النفسي

المساهمون