"ساراي".. رقص فوق حرائق السلالات

13 نوفمبر 2015
(مشهد من العرض)
+ الخط -

كانت فرصةً مناسبة لرؤية مونودراما مختلفة في عرض "ساراي" للمخرج البريطاني بول أنطونيو موريس على مسرح "أركولا" شرق لندن، بطلتها ساراي، أو سارة، زوجة إبراهيم، في رحلتها المعذّبة لتحقيق "نبوءة أرض الميعاد"، التي يعاني بسببها، حتى اليوم، ملايين البشر.

قضى المخرج وقتاً طويلاً من أجل قراءة شخصية ساراي والبحث عنها في كل ما أُتيح له من مصادر، ليصل إلى أن سارة وهاجر وإبراهيم لم يأت ذكرهم إلا في الكتب المقدّسة لدى الديانات السماوية الثلاث، وأنه لا يوجد أيّ مرجع تاريخي يتحدّث عمّا حصل وكيف حصل. في مقابل ذلك، وجد موريس في الشخصية ما يُمكن أن يُعاد إنتاجه بشكل معاصر، ليلامس قضايا يبدو أنها لم تُحسم بعد.

ألهمت الشخصية المركّبة المخرج، فكتب النص، واستعان بالممثّلة كارولينا غريس باسيدا لتأدية هذا الدور على مدار ساعة ونصف الساعة، ليخرج بأسئلة جديدة تُطرح بعد جرعة جمال عاصف واحتفالية متقنة من اللون والموسيقى والرقص والإضاءة.

في المسرح التحتاني لـ "أركولا"، ستنزل الأدراج لتجلس داخل غرفة مستطيلة الشكل خافتة الإضاءة، على مقاعد غير مرقّمة، تختار منها ما تشاء، ومن أي زاوية يكون مقعدك، لتكون لك القدرة على متابعة ما يحدث أمامك وكأنك تشارك فيه. تسأل نفسك: تُرى ما هو الدور الموكل إليّ في العرض؟

أربعة موسيقيين تقاسموا جانبَي المسرح، تتأمّل آلاتهم وتتساءل: كيف سيعزف هؤلاء معاً؟ ما الذي يجمع فلوت الجاز الغربي مع بيرون فالين بالناي والدف العربي مع لؤي الحناوي من جهة، والطبول اليابانية مع تشيلو جيني أدجاين والأجراس الهندية للعازفة ناو ماسودا من جهة أخرى. هنا، ستكون الموسيقى مغامرةً تستدعي خبرة فنان الجاز البريطاني فالين المخرج الموسيقي للعرض. بعد ذلك، يدخل عازفا الناي والفلوت إلى منتصف المنصّة مقتربَين من ساراي، ليكسرا نمطية الحياد وتشكّل موسيقاهما نشيجها الداخلي.

تشكّل موسيقى العرض جزءاً أساسياً من لغته، وعنها يقول المخرج الموسيقي فالين: "إن كل ما ألّفتُه عن النص رميناه لاحقاً أثناء البروفات. الموسيقيون أنفسهم ساهموا في كتابة نوتات العرض". أمّا عن الموسيقى العربية في العرض، فيقول الحناوي: "إنها موسيقى المكان الذي خرجت منه سارة، وكان التحدّي في إيجاد الاتّصال السلس غير الناشز مع موسيقى أخرى من عالم مختلف تماماً في البنية والروح. وهنا أهمية هذه التجربة".

تُطلِق الآلات أصواتها الغامضة في الفراغ، ريثما تدخل سارة وهي تجرّ حقيبة كبيرة، وتشرع في بناء اللمسة الأخيرة من سينوغرافيا المسرح أمام الجمهور، لتنصب خيمة مصنوعة من ملابس الأطفال. تروي سارة رحلة العذاب مع زوجها الطاعن في السن وحلمها بالحمل الذي لم يتحقّق. شوقها للولادة والطفل، وخوفها وتشكيكها في تلك النبوءة التي سمعها زوجها، بأن يكون له نسل كثير، وبأنه سيحكم "أرض الميعاد" إلى الأبد. كلّما وجدت مكاناً للراحة تساءلت: أتكون هذه أرض الميعاد؟ عن أي أرض يتكلّم الرب؟ إلى أن وصلت مصر فأنكرها زوجها وقدّمها لأمير مصر على أنها أخته، هنا تظهر شخصية هاجر، وهي في المسرحية أميرة مصرية وليست مجرّد جارية أهداها الأمير لإبراهيم.

بسلاسة، ينتقل سرد سارة في مسارب دروب الهجرة والشتات والصحارى ومعاناة الأوبئة والمجاعات وحنوّها على اللاجئين ومعالجتها للهاربين من الموت والمجاعة والحرب. سارة، المرأة بنزقها ويأسها وفرحها وأنوثتها وفخرها، ستكون الأمّ لـ"أمّة مختارة" لا ينغص عليها سوى ضرّتها هاجر. سنرى ضعف ساراي يتمرّد عليها، فما إن تتكيّف أو تقبل حتى ترفض، ما إن تختار أو تصل حتى تهاجر، ما إن ترزق ضرّتها ولداً، حتى تطالب بولد لها، وما إن تحمل حتى ترغب بولد آخر، وما إن ترضخ حتى تطلب الحكم. وأمام هذا اللهاث الكبير، يتقدّم العرض.

يطرح العمل إشارة مبطّنة إلى لقاء بين أمير مصر وسارة وإغداقه عليها بالثياب والهدايا، سخطها على إبراهيم لادعائه بأنها أخته، ثم حصوله على هاجر هدية من الأمير، بينما لا تفتأ سارة في لحظات الغضب تذكّره بأنه طاعن في السن لا تستطيع السماء مساعدته لينجب ولداً. لتكرّر الجملة التي غيّرت تاريخ المكان والزمان طوال الوقت: "سأعطيك ولداً وسلالة تحكم أرضاً موعودة".

مشاعر متنافضة تمزج الأسطورة بذات امرأة معجونة من أنوثة الطبيعة وقوّتها. يتكشّف اللؤم وهو يتقطّر صديداً تجسّده الممثّلة بحركات رقص تعبيرية متوحّشة أتقن صناعتها مصمّم الحركة شين شامبو. تشكّك سارة في كل شيء وتقول إن "إبراهيم كان يسمع أصواتاً. ماذا لو كان كل هذا من خياله ولم يكلّمه الرب حقاً؟".

تطلق المؤدية أقصى طاقتها لتجسّد، بالحركة واللغة والرقص، روح الأنثى وصراعها ومخاوفها وآلامها. تروي وجع الرحلة خلف سراب النبوءة، محتشدةً بالتناقضات، محترقة من الغيرة، موجوعة من الحرمان. في جوّ مليء بالحركة واللهاث ومزيج من المشاعر المتناقضة، تجسّد صورة المرأة الداخلية في كل عصر.

يلعب المكان الضيّق دوراً ملهماً، ليقول إن الطاقة الداخلية المتفجّرة لساراي أكبر من المكان، فهي تشتعل بأقصى طاقة راقصة لديها، حتى تكاد تقتحم مقاعد الجمهور، لكنها تتوقّف دائماً بارتداد إلى الجهة الأخرى.

لم يتبنّ العرض طروحات سياسية مباشرة في ما يتعلق بالصراع العربي الصهيوني. لكنه أطلق صرخة على لسان ساراي المشكِّكة في وجود الوعد والميعاد. وهنا تكمن أهمية العرض وقيمته وطرحه الجدلي المناسب لما نعيشه اليوم. فوعد الله لم يحدّد مكاناً بعينه سوف يمتلكه أحفاد إسحاق، ولكنها إن وُجدت فعلاً، فما هي أرض الميعاد التي تحلم بها سارة وهاجر وإبراهيم وأولادهم؟

تعتلي ساراي حقيبتها. وبشكل مباشر، تحذر من يدّعون اليوم أنهم من سلالتها بأنهم "يخونون الأمانة والوعد". فإن كان مِن أرضٍ للميعاد، فهي الأرض الخالية من الشر والحقد والدم. هي أرض اللاظلم واللاقتل واللانهب واللاتشريد. أرض لا تُبنى ولا تُعمّر على مأساة شعب آخر. أرض حلم لكل من يُظلم، يحلّ بها السلام والرخاء والعافية، مفتوحة للضعفاء الموجوعين في العالم. يعيشون فيها على قلب واحد، سواء جاؤوا من رحم هاجر أو من رحم ساراي. هي ببساطة لا تشبه أبداً جرح فلسطين وتهجير شعبها وسرقة أرضها.

قوّة المسرح في إيجاده لتلك الأفكار الجديرة بالطرح، واستغلال سحر الخشبة لإخراجها الأسئلة من سكونيتها وإعادة طرحها على شكل صورة جديرة بالانتباه. ينتهي العرض على المنصة ويبدأ السؤال المضمَر، الذي يمكن أن يحمله معه كل متفرّج: أين تقع "أرض الميعاد"؟


اقرأ أيضاً: مسارح أميركا تضيق بالنص الفلسطيني

دلالات
المساهمون