لمين النهدي: خريف بطريرك الكوميديا التونسية

06 أكتوبر 2015
من عرض "في هاك السردوك نريّشو" (تصوير: سليم)
+ الخط -

منذ أيام، تداول التونسيون فيديو على الفيسبوك لمحمد علي النهدي مقلّدين إياه بتهكّم كبير. سبب هذا التهكّم هو افتقاد النهدي للموهبة الكوميدية، رغم ذلك يصر والده لمين النهدي (1950)، على تكريس ابنه وفرضه في الساحة الكوميدية، قد تكون حالة من الكاريزما المغلوطة أو محاولة لتوريث جمهور.

كثيرة هي الألقاب التي أطلقها الإعلام على لمين النهدي في مشواره، مثل "ملك الكوميديا" أو "مدرسة الضحك" وغيرها. بدأ ذلك منذ تسعينيات القرن الماضي، بعد بقاء الساحة الكوميدية في تونس خالية لسنوات بعد رحيل جيل الهادي السملالي وحمادي الجزيري.

ما ميّز النهدي، هو جاهزية الجانب الفطري من الموهبة الكوميدية، حيث إنه مبتكر نكتة ومتحكّم في قسمات الوجه وخالق للشخصيات الطريفة، وبالأساس لديه ملكة الارتجال، التي يسيء استخدامها أحياناً.

كانت بداية مشوار النهدي في مدينته الكاف، من الشمال الغربي التونسي. في السبعينيات، رفعت الدولة التونسية شعارات الـ"لا مركزيّة ثقافيّة"، فأقدمت على تشجيع المواهب الشبابيّة في الجهات بإتاحة الفرصة لهم، وهي فترة تزامنت مع عودة جيل من المسرحيين الذين درسوا في فرنسا، مثل فاضل الجعايبي وفاضل الجزيري وعز الدين قنّون، وكان من بينهم منصف السويسي الذي سيدير "فرقة مدينة الكاف"، حيث تعلّم النهدي المسرح.

في مدينة تونسية أخرى، قفصة، جنوب غرب تونس، نمت تجربة مسرحية فريدة، وفي لحظة ما، ستتقاطع التجربتان، حين يلتقي النهدي بالجعايبي وجليلة بكّار وآخرين في مسرحية ثم فيلم "عرب"؛ حيث قدّم النهدي لأول مرّة دوراً دراميّاً، ولا يزال حتى اليوم يرفعه كشهادة بكونه ممثلاً قبل أن يكون كوميدياً.

برز اسم النهدي في عمل سينمائي آخر "فردة ولقات أختها". كان الفيلم الكوميدي التونسي الوحيد الذي يبثه التلفزيون الرسمي لسنوات.

دفعه ارتقاء درجات في سلّم الشهرة، إلى الاستقرار في العاصمة، حيث شارك في عدة مسرحيات كانت جرأتها تتزايد كلما أحاط بها الجمهور، فلامس النهدي بعض المحظور في أدواره، ولكن هذه الفترة انقطعت بدخوله السجن لأسباب يتداخل فيها القانوني الصرف بالوجه السياسي لفنّه.

مع نهاية الثمانينيات، ووصول بن علي إلى السلطة، أعطيت الفرصة لمن قدّموا أنفسهم على أنهم ضحايا القمع البورقيبي، وهو منعطف يفسّر لنا كيف جرى تكريس أسماء دون أخرى في المشهد الفني. بات الطريق مفتوحاً، ودون منافس جدّي، مُنح النهدي حيّزاً تلفزياً مهمّاً، فملأ فراغات الكوميديا بالسكيتشات والمسلسلات.

كان لا بد أن يتقاطع هذا الدور مع سياسات النظام، وأن يتبادل النهدي المنافع مع نظام سياسي جديد يبحث لنفسه عن موطئ قدم في جميع المجالات. كان لا بد لقمع الحريات وخنق الفضاء العمومي من سياسة إلهاء.

هنا، خُلقت ضجّات رياضيّة وأخرى ثقافيّة، بدت في معظمها شعبويّة بامتياز، تراوحت بين صفقات جلب المشاهير (مايكل جاكسون وباتريك برويال)، وبين الإشهار الثقافي لمهرجانات مفرغة من الثقافة.

شجّع ذلك الإطار على بعث مشاريع ثقافية عديدة تتماشى مع هذه الموجة، وتنال بعد ذلك الدعم متمثلاً في الأموال المرصودة من وزارة الثقافة. ورغم أن الدعم ساهم في انتشار عقلية الحد الأدنى في الفن والبحث عن الحد الأقصى في الربح، إلا أن القلّة الموهوبة عرفت كيف تستفيد منه بقوة، في معادلة جديدة: الفنان التاجر.

انسجم النهدي مع الواقع، وتحوّل إلى "ممثّل للحساب الخاص"، حيث بدأ في خوض غمار تجربة الـ"وان مان شو"، القالب المسرحي الذي بات ظاهرة في فرنسا آنذاك، ومع أسماء ذات أصول مغاربية، مثل سْمَاعينْ ومحمد فلاق.

تجسّد هذا التوجّه في مسرحية "المكّي وزكيّة"، التي أدّى فيها عدّة شخصيات، كان أبرزها الريفي القادم إلى المدينة، ولكنه لم يتوقف عند تناولها التقليدي في المسرح التونسي، فصاغها في أشكال جديدة، وأضاف أبعاداً فرجوية لعروضه ليمزج في أدائه بين الرقص والغناء وتقليد المشاهير.

مع هذه المسرحية، بدا النهدي وقد أرضى المتفرّج والدولة والنفس، إذ حافظ منطوق المسرحيّة على المسموح به. مرّت "المكّي وزكيّة" من كلّ المهرجانات (مدخل آخر يفضي إلى المال العمومي)، في الوقت نفسه الذي عملت فيه الآلة الإعلاميّة للنظام على جعل هذا العمل مثالاً لدى العائلة الثقافيّة؛ فقدّمت البرامج التلفزيّة والصحافة المكتوبة النهدي، ولا تزال، على أنه قمة الصنعة الكوميدية.

هذا النجاح المدفوع بحقنات تنشيط إعلامية، جعل المسرحية تُعرض لثمانية أعوام، ولم يتوقف النهدي إلا حين تحسّس تغيّراً في الذائقة الشعبية، باعتبار أن سنوات الألفين جاءت بشيء من التنفيس في حريات التعبير، بات معه من الضروري الانتقال إلى خطاب مسرحي جديد.

هنا، أطل النهدي بمسرحية "في هاك السردوك نريّشو"، انفتح العرض على بعد سياسي واضح فاجأ الجمهور والدولة، وزاد في شعبية النهدي. لكن الجميع سيتفاجأ أيضاً حين رفع السيناريست منصف ذويب قضية بالنهدي متهماً إياه بسرقة نصه بعد أن أوهمه بأنهما سينتجان مسرحية بعنوان "فلوس الشعب".

تقريباً، يعلم الجميع أن النص لذويب، ولكن النهدي واصل العرض؛ يرجّح أن قربه من النظام، خصوصاً من عائلة الرئيس بن علي، والمصالح المادية التي تؤمّنها عروضه، حالا دون إيقافه. ليس مستغرباً بعد ذلك أن يكون النهدي ضيف برامج الترويج لبن علي في الانتخابات التي يخوضها.

في جولة مهرجانات هذا العام، عرض النهدي مسرحيته الأخيرة "ليلة على دليلة" التي تكاد تكون توزيعاً جديداً للشخصيات التي أداها في عمليه السابقين، من دون الخروج عن معادلته التي تعتمد على شخصية الريفي حين يخرج من مناخه الاجتماعي الأصلي. لعل الإضافة التي جدّت على هذه المعادلة هي جرعة الألفاظ غير المقبولة في الفرجة العائليّة، واستمالة الجمهور بالإثناء على حضوره.

من جهة أخرى، تميّزت عروض النهدي في السنين الأخيرة بإصراره على حضور ابنه محمد علي معه مكرّساً إياه في مواقع المشارك في التمثيل أو المخرج أو الموظب الركحي، وهي أدوار من الصعب القول إن محمد علي نجح فيها، بل إنه كلّما غامر وفكّر في عمل مستقل عن والده، جنى فشلاً ذريعاً وتعرّض إلى التهكّم لسوء استعماله الكوميديا.

رغم ذلك، يأخذ الأب دور المروّج لابنه كلما حضر في الإذاعات والبرامج التلفزية، بل إنه يضع اسمه في مسرحيات لـ محمد علي من دون أن تكون له مشاركة فعلية فيها.

بدخوله لعبة تكريس ابنه، دخل لمين النهدي في صراع مع الجيل الجديد من الكوميديين التونسيين. قد تبدو مجرد معارك شخصية على المواقع الريادية في فن الكوميديا في تونس، ولكنها أيضاً معركة بين أجيال وسياقات اجتماعية وسياسية.


اقرأ أيضاً: فاضل الجزيري.. قائد أوركسترا جمهورية الحضرة

المساهمون