عمرو الكفراوي.. سرابات عابرة

28 يناير 2015
من سلسلة "مثل السراب"
+ الخط -

القاهرة هي مدينة التشكيلي المصري عمرو الكفراوي، وهي سرابه. سرابٌ لن تُقرّبك خطواتك إلا من وهْمه، وهْم العثور على عالم لم يعد له وجود خارج أقبية استوديوهات تصوير فوتوغرافي عتيقة، خلّف رمادُها بالكاد آلات عَبَرها الزمنُ وغبّرها، ووجوهاً يرقد أصحابها الأصليون تحت التراب.

"مثل السراب"، إنه العنوان الذي اختاره الفنان المصري (1980) لتجربته الأحدث، التي تتضمن لوحات تُشكِّل متتالية بصرية، بأحجام متراوحة، أشبه بحكاية يتقدّم فيها السرد كلما تقدَّم المتجوّل، أبطالها أشخاص عاديون، لم يكن واحد منهم ذات يوم بطلاً، وربما لم يحلم. "أفندية" القاهرة الصغار و"هوانمها" المُقلَّدات وأُسُرها القادمة من نعيم البورجوازية الصغيرة، هم أبطال هذه التجربة. محض مواطنين عابرين تخلّت عنهم أسماؤهم لفرط عاديتهم، واستعادهم الفنان من ذاكرة الأبيض والأسود، في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، حقبة التحولات الغائمة في بلد كان يغادر حينها مَلكية الأغراب باتجاه استقلال الضباط.

الفقد الشخصي اتخذ لنفسه مكاناً هذه المرة من صور الموتى العموميين. ليس الفقد بالضرورة بيتاً قديماً غادرته، أو وجهاً أليفاً غادرك. يمكن للفقد أن يخطّ لنفسه مساراً آخر، بالتفتيش في وجوه لم نرها أبداً. يمكن، بقدر من تقمّص ذوات فقدت مواقعها على خارطة الأحياء، أن يصير فناءُ الآخرين سؤالاً شخصياً، ولافتةً كبرى تشير إلى فَناء مدينة.

جميع الصور لوجوه في شرخ الشباب وعتبات النضج، تتطلّع إلى مستقبل صار الآن ماضياً سحيقاً. ملحوظة أولى لا تخلو من دلالة: لقد اختار الفنان ذواتاً شابة لينفخ فيها روحاً مستعارة على أطلال عاصمة الحاضر الشائخة.

نتجوّل بين الأعمال كأننا دخلنا خلسة حجرات غرباء من دون استئذان، لنجد أشخاصاً ينظرون بأريحيةِ من لا يتوقعون تلصّص الآخرين: أسرة سعيدة (أو هكذا تبدو) تبتسم في وجه الكاميرا، مراهقة عشرينية تتطلع إلى شبح حبيب أُغلق الكادر من دونه، ثلاثيني يعلو فمه شارب كيرك دوغلاس، رياضيون تعرّوا ليعرضوا فتوة الأجساد التي صقلتها الحدائد. لوحة تلو الأخرى، حتى تصل للوحتين نهائيتين لا وجود فيهما لبشر؛ فقط شبح مدينة ضخمة مشوّهة خلت أخيراً من ساكنيها لتصفو لخوائها، ككلمة نهاية في فيلم صامت تنتهي أحداثه بموت جميع أبطاله.

للأنثى بطولة واضحة في هذه اللوحات، الأنثى في أطوارها: من الصبا إلى عتبات النضوج، ومن توحد البحث عن حبيب إلى تخمة أُسرة يضج بها الكادر. تبدو المرأة تمثيلاً مثالياً لزمن ولّى ومدينة فقدت، بالأحرى، أنوثتها: النظرات الحالمة التي تحاكي نجمات ذلك الزمن، تصفيفات الشعر التي بات من النادر رؤيتها الآن تحت سيل الأحجبة، والتنورات التي تشي بأكثر مما تخفي.

تقنياً، اشتغل الكفراوي على علاقة دالة بين الموضوع والخامة. قرر أن يعيد تصنيع الشخوص بمحاكاة رمزية، بسكبهم على أوراق لا غرض لها أبعد من غرضها الاستعمالي. العابرون يلائمهم فضاءٌ عابر. هكذا وقع اختيار الفنان على نوع من الورق الرخيص معاد التصنيع، ورق كان قبل أيام جزءاً من قمامة مدينة هائلة لا تكف عن لفظ بقاياها في أركانها العمومية، قبل أن يُعاد تدويره لتُغلّف به السلع الرخيصة. إنه، فضلاً عن انحيازه الجمالي ما بعد الحداثي، انتصار أوّلي للهشاشة، للعابر، يجعل التقنية نفسها جزءاً من الموضوع.

ثمة مفارقة رغم ذلك: أن يُستحضر جمال ذوات الماضي على "خامات" من قبح الحاضر. هل يمثّل ذلك الورق معادلاً رمزياً للمدينة نفسها؟ يجيب: "بالتأكيد، لهذا الورق علاقة ما بذلك الواقع الذي لا مناص منه.. المدينة بتوترها الصاخب، وضجيجها الذي يعلو ليملأ فراغ مخيلتك بلون رمادي، يشوبه أحياناً لون ترابي ثقيل، تختلط فيه كيانات صُبغت بنفس القدر تماماً من الحيادية والتجانس لتكوّن في نهاية الأمر ذلك الكيان الهلامي الهائل".

يلخّص الكفراوي سؤاله المؤرق في كلمات قليلة قدّم بها لتجربته: "جميع لوحاتي الأخيرة تطرح السؤال نفسه الذي يشغل العديد من المصريين في هذه اللحظة: ما الذي أوصل المصريين إلى تلك المرحلة المشوهة؟". سؤال صغير مباشر بمذاق إجابة كبرى غائمة.

ثلاث سنوات استغرقها العمل على التجربة. بدأت ببحثٍ مضنٍ في استوديوهات التصوير الفوتوغرافي القديمة في القاهرة، إلى أن عثر على أحد مقتني الصور القديمة، الذي أمدّه بالمجموعة التي انتقى من بينها نماذجه. بعد ذلك انتقل إلى محطة تالية هي تصوير القاهرة "الآن". في المرحلة الثالثة، بدأ المزج بين الوجوه القديمة والمدينة الحالية، بتقنية "اللصق" على الورق معاد التدوير. عولجت الصور الفوتوغرافية طباعياً، ثم عولجت تصويرياً بالزيت، قبل أن يتدخل الرسم بمساحات تحريفية محسوبة. أبقى الفنان على حالة الأبيض والأسود كفضاء مهيمن، وكان تدخّله بمسحات لونية شاحبة بدت كقبلات حياة، ليُنتج في المحصلة تجربة تنتمي إلى التصوير المعاصر الذي يتواشج فيه أكثر من عنصر في فضاء اللوحة الواحدة.  

استبعد الكفراوي الخلفيات الأصلية، نزعها وفرّغ الذوات منها، كأنه ينزع الوجود الإنساني عن سياقه المغلق، قبل أن يزجّ بشخوصه في خلفيات جديدة، أبرزها الأفق القاهري، فبدت الشخوص (برؤية دالة) كأنها تدير ظهورها للمدينة المفتوحة. وفي الأخير، أصبحت مدينة الحاضر مكاناً لوجوه الماضي. هل هو التقريب بين زمنين أم التأكيد على استحالة اللقاء؟


* روائي وناقد من مصر 
دلالات
المساهمون