سيد أحمد وعبد العزيز.. في ذكرى الصوتين

17 يناير 2015
سيد أحمد (يميناً) وعبد العزيز (رسم: طلال الناير)
+ الخط -

مثَّل موت المغني والملحن السوداني مصطفى سيد أحمد، في 17 كانون الثاني/ يناير 1996، بداية اتساع شعبية أغنياته. وظل مشهد الآلاف التي انتظرت جثمانه القادم من العاصمة القطرية الدوحة لتشييعه مشهداً لم يتكرّر إلا بعد 17 عاماً، حين رحل، في نفس اليوم والشهر من عام 2013، المغني صاحب الشعبية الكبيرة أيضاً، محمود عبد العزيز، في العاصمة الأردنية عمّان.

كان مصطفى، المولود في "ودسلفاب" إحدى قرى "الجزيرة" (1953)، صاحب أثر قوي على مستمعيه، لدرجة أن عدم الاستماع لأغنياته، اعتُبر في وقتٍ ما "مَنقَصة ثقافية" بين الشباب. إذ تحوَّل صاحب "عم عبد الرحيم" في السنوات القليلة التي تلت رحيله، إلى رمز، وأصبح سماعه فعلاً ذا دلاله، وليس عرضاً ثانوياً يلتصق بأحداث اليوم، فيكفي أن يقول أحدهم: "أنا أسمع مصطفى"، ليصف بثلاث كلمات فقط، طريقة حياته.

المعلّم والمغني، الذي عُدَّ امتداداً لمشروع خليل فرح، بالغناء للحبيبة/الوطن؛ قفز بالنص المغنَّى قفزة هائلة، بلغت ذروتها عند نصوص غاية في الحداثة وقتها، مثل "غناء العزلة" للصادق الرضي، و"اقتراح" لعاطف خيري. وكان قبلها غنى ولحن نصوصاً تعد خارجة عن مألوف الغناء السوداني في موضوعاتها، مثل نصوص عبد الرحيم أبو ذكرى، وأزهري محمد علي، وقاسم أبو زيد، وهاشم صديق، وكثيرون غيرهم.

انتمى مصطفى إلى اليسار السوداني، "الحزب الشيوعي"، وغنى نصوصاً لشعراء يساريين، مثل محمد الحسن حميد، ومحمد طه القدَّال، ومظفَّر النواب، وغيرهم ممن التقوا معه في مشروعه الإنساني والتنويري، في فترة كاد يذوب فيها الحد الفاصل بين "المعارض" و"اليساري"، بسبب ظروف سياسية معقدة. الكثير من النصوص التي اختارها لم تكن سهلة التلحين والأداء، كونها تخرج عن معتاد الوزن والقافية، مثل قصائد "سِفْر السكوت"، "غناء العزلة"، "شهيق"، "جالوص"، "المناديل الوضيئة" وغيرها.

إنتاج مصطفى الغزير حملت معظمه أشرطة الكاسيت المسجلة من "جلسات" مباشرة مع الجمهور بآلة العود، بسبب عقبات وُضعت أمام إجازة وتسجيل أغنياته رسمياً، فلم يصدر إلا ألبومات محدودة في التسعينيات؛ "الحزن النبيل"، "البت الحديقة"، "طفل العالم الثالث"، وهو ألبوم جماعي ضم إلى جانبه محمد وردي ويوسف الموصلي. إضافة إلى ألبومات أخرى أنتجت بعد رحيله تحوي أغنيات من جلسات بالعود تمت معالجتها موسيقياً.

أكثر من 400 أغنية أنتجها مصطفى في عمره القصير (43 سنة)، جذبت إليه جمهوراً من النخبة، والمثقفين، والشباب، وطلاب الجامعات، والعمّال، كونه غنى للحبيبة، والوطن، والفقراء؛ أغنيات مناوئة للديكتاتورية والحكم العسكري وسيطرة رجال الدين.

ومثلما شهدت التسعينيات الباكرة، موضة الشعر والشارب الكثيفين، تشبّهاً بمصطفى؛ كان يكفي أن يظهر محمود عبد العزيز بقميص أو حذاء محدد، ليصبح موضة الشباب في اليوم التالي. فالمغني المولود في الخرطوم (1967) صار رمزاً لجيل نضج في زمنٍ شاخت فيه الرموز، فتحوَّل إلى "رابطة" تجمع الملايين، في واقع وسمه التفكك، وندرة المشتركات، برغم عدم وجود رؤية فكرية واضحة يحيل إليها الاستماع لعبد العزيز.

فعلى عكس مصطفى سيد أحمد؛ لا يمكن نعت محبيه بـ"الشيوعيين" أو "المعارضة"، فهو يغني للحب والخيبات الصغيرة التي تصيب الجميع. كما أنه ظل خارج ضيق الانتماء، مثل أكثر جمهوره، الذي عانى من الانكسارات الوطنية، واليأس من الرموز السياسية والاجتماعية، فاتخذ من صوت عبد العزيز ملاذاً.

تختلف موسيقى عبد العزيز عن موسيقى مصطفى سيد أحمد، في كون الأولى بسيطة، وحديثة، وسريعة، وحارّة، وتصاحبها كلمات ليست معقدة، بل هي مباشرة، لا تحوي تجديداً أو صوراً غير معتادة، مثل حال مصطفى. فببساطة يقول محمود: "في نعيمك أنت هانئ يا البقيت سلطان زماني"، أو "بتريدني وموت بريدها وهي قنوعة بالزول البريدها".

ومثل مصطفى، ربما كان للصدام مع السلطة سحره في شخصية عبد العزيز، فقد تعرَّض بسبب نمط حياته المثير للسجن والجلد. إلا أن القسم الأكبر من سحره في رأي الكثيرين، تحمله رنَّة الحزن الدفينة في صوته، التي كانت تجذب المستمعين إليه.

كانت حياة محمود قصيرة أيضاً (45 سنة)، أنجز فيها 29 ألبوماً ظلت تحقق لسنوات أعلى مبيعات في سوق الكاسيت.

يعد مصطفى ومحمود، رغم الاختلافات البائنة في مشروعيهما الفنيين؛ موجتان مهمتان، عبَّرتا عن ذروة التحولات في المجتمع السوداني، وشكلتا جيلين، تلاقيا في عشقهما حدَّ الترميز.

المساهمون