تطلق على والدتها لقب الموسوعة الموسيقية المتحركة، إذ تستعين بها كلما تاهت عن أغنية أو نغمة. لذلك، كان لزاماً على العازفة والمؤلفة الموسيقية الفلسطينية هدى عصفور (1982) أن تعتني بتفاصيل عملها الفني إلى أبعد حد، هي التي ولدت في منزل كان كل من فيه إما يملك صوتاً جميلاً مثل أمها وخالاتها، ومنهن المغنية والملحنة سلوى جراح، أو يعزف على إحدى الآلات الموسيقية كما هو حال جدها عازف العود، وخالها عازف الغيتار؛ فأمست عصفور عازفة على آلتي القانون والعود، ومؤلفة موسيقية قدّمت عام 2011 أول أسطوانة لها بعنوان "جاي ورايحة".
في هذا البيت المترع بالموسيقى، تعرّفت عصفور إلى الموسيقى العربية الكلاسيكية وتراث الشام والعراق، كما كان لـ "المالوف" التونسي أثر على خلفيتها؛ بحكم سنوات الطفولة التي عاشتها في تونس، وفيها بدأت دراستها الأكاديمية حين التحقت بأحد معاهد الموسيقى، ثم تابعت في "المعهد الوطني" في غزة ثم رام الله، وأخذت نظريات الموسيقى عن أستاذها خالد جبران، وتعمّقت في دراسة آلة القانون. بعدها، عملت الفنانة مع فرق مثل "سنابل" في فلسطين، و"جهار" التي أسستها برفقة تامر أبو غزالة.
واجهت الموسيقية الشابة في بداياتها عدة خيارات مهنية. فرغم أن الموسيقى كانت على رأس قائمة خياراتها، خصوصاً أنها كانت طالبة في "المعهد الوطني للموسيقى"، (معهد إدوارد سعيد حالياً)، لكن عدم وجود معهد عالٍ للموسيقى في فلسطين، إضافة إلى ممانعة العائلة مغادرتها البلد في سن صغيرة، جعلاها تدرس الهندسة في "جامعة بيرزيت"، وهي اليوم باحثة في مجال الهندسة الطبية: "لكني لم أتوقف عن العزف أو الكتابة وإنتاج الموسيقى، رغم صعوبة الموازنة بين مهنتين في عالم يؤمن بالتخصصات، إلا أني أستمتع الآن بهذا التنوّع في حياتي المهنية".
بقيت الموسيقى في حياتها من أجل الموسيقى فقط، فيما أصبحت الهندسة الطبية مصدر عيشها، بعد أن أكملت تخصصها في جامعة "جورج واشنطن" في الولايات المتحدة. لكنها ترى وجهين لتجربتها أحدهما إيجابي والآخر سلبي: "لعلّ قلّة الضغوط المادية تمكّنني من العمل على مشاريع مستقلة لا أتقاضى عليها أجراً، إلا أنني ما زلت مسؤولة عن تغطية تكاليف الإنتاج وأجور الموسيقيين الذين أتعاون معهم".
وتضيف: "أجد الوقت غالباً يأتي في غير صالحي، فانشغالي بعملي حالياً كباحثة لا يعطيني فسحة كافية للتفرّغ التام لبعض الأعمال الفنية التي أشتغل عليها في أغلب الأحيان بشكل موازٍ. هذا النمط من الحياة يجعل إنتاجي الفني أبطأ، ويحد من تقديم العروض الفنية، ومن تواجدي في المنطقة العربية باستمرار".
تظهر في ألبومها "جاي رايحة" ميولها للموسيقى التصويرية، ولعلّ هذا ما قادها عام 2012 إلى خوض تجربة مع المخرج المصري مصطفى يوسف، إذ كتبت موسيقى فيلمه الروائي القصير "اللون الأزرق": "أحببت التجربة للغاية، فإضافة إلى كونها تجربتي الأولى في الموسيقى التصويرية، عملت أيضاً مع رباعي وتريات لأول مرة؛ ما زاد من غنى التجربة". وتشير عصفور: "أحضّر اليوم لكتابة موسيقى لفيلم وثائقي مع المخرجة الجزائرية - الفرنسية دوروتبه مريم كالو، يتناول تفاصيل ترحيل الجزائريين من قراهم من قبل الفرنسيين إلى معسكرات معزولة في الخمسينيات من القرن الماضي".
أسئلة عديدةٌ تشغل عصفور، وتدور، عموماً، حول علاقة الموسيقى بمحيط الفنان، ومفهوم الحداثة والمعاصرة في الموسيقى العربية، إضافة إلى مفاهيم أخرى مثل الهوية الموسيقية. لكنها ترى أن أهم مقوّمات العمل الفني تكمن في مصداقيته: "اليوم اختلفت نظرتي إلى دَور الموسيقى. أعتقد أنها تلعب أدواراً عديدة، كما أن الموسيقى الأكاديمية/ المثقفة هي أحد الأنماط، ومن الضروري تمكين هذا النوع كي يصل إلى المستمع، وألا يبقى حكراً على النخبة القادرة على فهم تفاصيله وتذوقه". أما عن الناحية التقنية، فتقول عصفور: "رغم أني أود لو كانت أدوات التذوق الموسيقي أكثر انتشاراً في عالمنا، إلا أنه يشغلني حالياً البحث عن إمكانية إنتاج موسيقى على مستوى عالٍ من الجودة، ولا يقتصر تذوقها على النخبة فقط. معادلة قد تبدو صعبة بعض الشيء".
قد يأخذ بعضهم على عصفور المبالغة التقنية بما تضعه من أعمالٍ موسيقية؛ ذلك أنها - بحسب تعبيرها - تفكّر كثيراً في كل تفاصيل العمل، وتبحث بشكل دائم عن صوت أو لون معين: "إجمالاً، أحب أن يمرّ العمل بمراحل عديدة، أولها الفكرة الخام، أعمل على تهذيبها وصياغتها واختبارها. بعدها يمر العمل بفترة "تخمير"، إذ أبتعد عنه فترة وأعود بعدها للاستماع إليه والاعتناء بتفاصيله".
مزيجٌ من الأغاني التونسية والعراقية، إضافة إلى أشكالٍ أخرى، تُعدّ هدى عصفور لإصدارها في أسطوانة جديدة، بعنوانٍ مؤّقت هو "موزاييك". هذا المزيج بين الأشكال الغنائية، قاد إلى تنوّع بين الآلات، فنستمع في ألبومها إلى آلات نفخية، وأخرى وترية وإيقاعية.
ومن جهةٍ أخرى، تعمٌل عصفور برفقة الشاعرة السريلانكية الأميركية، غاوري كونسوارين، على مزيجٍ بين الشعر والموسيقى الهندية والعربية. غاوري، ستكتب نصوصاً تسرد حكاياتٍ عن إحدى الآلهة الأسطورية، تتنقل بين أزمنةٍ وبلدان، لتروي قصصاً إنسانية وأساطير تنتمي إلى تراث منطقة شرق آسيا، وستضع عصفور الموسيقى لها. سيشارك في العمل أيضاً راقصة كندية، وآخر سوري، هو راقص الفلامنكو واثق سليمان، لتصمّم لهم رقصات هذا العمل الهندية منهليني كومنراج.