يوميات غزة: الحمّام بوصفه مغامرة خطرة

14 يوليو 2014
ليلى الشوا / جدران غزة
+ الخط -

أسكن حيّ تلّ الهوا [أي الهواء] في مدينة غزّة، وكم يغيظني البعض عندما يخطئون في تهجئة عنواني فيبدلون الألف الممدوة بألف مقصورة، والّذي في تقديري قد استفزّ البعض لتغيير اسم الحيّ إلى (تلّ الإسلام العظيم)، والّذي تستفزّني بدورها لفظة (العظيم) فيه: فهي إن عادت صفةً للإسلام أكّدت مؤكّداً ولم تضف إلى المعنى، وإن عادت صفةً للتّلّ فقد خالفت واقعًا.

ليلتها ـ أو يومها على رأي ابنتي الصّغيرة ـ أطبقت الحرب حلقاتها على خناق حيّنا [العظيم].

دينا تسألني: "بابا همّه ليش خلّوه كلّه نهار؟". الحقّ أنّ ذكائي لم يسعفني لفهم سؤالها، وعند استفساري أوضحت: "أصلهم ما خلّونا ننام".

كنّا قرابة الثّلاثين جمعتنا مصادفة أو تواطؤ غير معلن في بيت جارنا المسيحيّ الوحيد في المبنى وربّما في المنطقة. لم يبد الأمر غريباً وخاصةً عندما تجمّعنا لاحقًا حول بقايا حلوى البربارة. وعندما تقاطعت نظراتي ونظرات السّيّدة العذراء المعلّقة على الحائط طمأنتها مؤكّدًا أنّ سوء الفهم متبادل.

تجمّعنا في إحدى زوايا المطبخ المعتم بعد مسح أمني عاجل للمكان، وتحت ضربات القذائف وأزيز الرّصاص واهتزاز المبنى، تم اختزال وجودنا في فكرتين مترابطتين: الخوف من الموت، والحاجة لدخول الحمّام. الكثير منّا يعرف أنّ الماء يشكّل ثلاثة أرباع جسم الإنسان ولكنّ القليل منّا يعي أنّ تلك الأرباع جميعها تتدفّق إلى المثانة في لحظات كتلك.

لم تتوقّف المهام الانتحاريّة لاصطحاب الأطفال ذهابًا وإيابًا إلى ومن الحمّام بالرّغم من أنّ الرّحلة تستوجب قطع منطقة في مرمى النّيران مواجهة لشرفة زجاجيّة كبيرة مطلّة على الشّارع. يقف الشّخص ممسكًا بصغيره آخذاً ساتره ومتحيّناً الفرصة للانطلاق كالسّهم، وفي الحمّام كان صوت آليات الجيش كفيلاً باختصار كلّ البروتوكولات، فجيش الاحتلال على بعد نافذة زجاجيّة نصف مفتوحة. أمّا العودة فكانت رحلة عكسيّة لا تخلو من النّشوة والتّحفيز لشخص ينتظر دوره.

لماذا تخذلنا مبادئ الهندسة المعماريّة، وأصول التّصميم الدّاخليّ، وقواعد الصّحة العامّة، وتوصيات صحّة البيئة، عند حاجة وظيفيّة أساسيّة ببساطة الحاجة لوجود حمّام في المطبخ في موقف كهذا؟ لم يتوقّف نداء الطّبيعة بل تحوّل صراخًا متواصلاً، وعندها قرّرت أخذ المبادرة وقبول مسؤوليتي الجديدة كمهندس الخراء في المجموعة. بحثت في خزانات المطبخ عن وعاء مناسب فأفرغت دلوًا ووضعته خلف طاولة المطبخ وقمت بإسدال غطاء الطّاولة على الأرض كساترٍ وأعلنت للجميع بفخر عن افتتاح الحمّام الجديد في المطبخ. أبدى الأطفال دون العاشرة سعادتهم بالفكرة وأخذوا يمارسون مهامهم واقفين وجالسين وحتّى بدون مرافق.

بالطّبع لم يحلّ الحمّام الجديد مشكلة الجميع وكنت أحدهم، أمّا الحاجة لدخول الحمّام فكانت ترتقي لدرجة المخاطرة. وبدوري قطعت الأميال الفاصلة بين المطبخ والحمّام، وقمت بما كان يجب أن أقوم به بسرعة أذهلتني شخصيًّا. لا أدري إن كان ذلك بسبب الخوف، أم تدفّق الأدرنالين، أم القدرة الفائقة للعقل على التّحكم بأعضائنا في لحظة ما.

بعد مرور ساعات من سيطرة الجيش على الحي هدأت رحى الحرب ولم يعد الخراء سيّدًا للموقف، فقد حظيت السّيّدات بمبيت في غرفة النّوم الرّئيسة والّتي تحتوي على حمّام داخلي فأصبح لنا نحن الرّجال حمّامًا منفصلاً، كما لم تعد الرّحلة إليه بذات الخطورة. وأخذنا نتداول أمورًا أخرى على غير ذات الأهميّة مثل توفير الطّعام والأغطية، وتحديد أماكن وساعات النّوم، وذهب البعض لتصميم الرّايات البيضاء اذا ما طلب منّا الخروج، وتجادلنا حول ضرورة ترك الباب مفتوحًا خوفًا من تفجيره عند دخول الجيش، بل وذهب البعض بعيدًا لحدّ التّندّر حول جدوى البحث عن سجادة للصّلاة في بيت صديقنا.

في مساء اليوم التّالي زارنا الرّعب ثانيةً على أصوات أقدام خلف الباب تبعها طرق شديد. قمنا بالتّجمّع الفوري ومراجعة خطتنا المعدّة مسبقًا، وبالتّالي تقدّمت سيّدة لفتح الباب وسط ترقّب الجميع. وبعد تردّد وطول انتظار أطلّ علينا جارنا المسن أبو علاء ساخراً: "يا جماعة إنتو ليش خايفين هالقدّ؟ إحنا الآن في حماية الجيش". وكان يرافق مجموعة من النّساء لا نعرفهنّ كنّ قد قطعن نصف المسافة عبر الحيّ في عتمة اللّيل لمساعدة إحداهنّ الّتي تبحث عن حفّاظات لطفلها الصّغير.

حفّاظات!!! يا لردّ الفعل! لا أعتقد أنّ تلك السّيّدة قد تعرّضت لتوبيخ أو حاجة لتبرير أو رهبة من الجيش بقدر ما تعرّضت له من نساء مجموعتنا. "انتي مجنونة حد بينزل من بيته عشان حفّاضات"... "يا جماعة الست بس بتسأل اذا بتقدرو تساعدوها"... "أنا مش فاهمة انتو ليش بتتصرفو معي هيك"... "امسحيلو بقماشة ولا بأواعيكي"... "بدّك تموتي علشان خرا ابنك"... "هينا ولا وحدة بتستعمل حفاضات"... "طيب يختي خلص تعالو معي على شقتي فوق أجيبلكو حفّاضات"... "سايقة عليك الله يا جمال ما تسيبنا وتطلع"... "خلص عاد بدّيش ولا واحد يفتح تمّو"... "خلص خلص أنا آسفة"... "يا جماعة بقلّكو دبّابات الجيش خلص قعدت واتخندقت في الرّمل"...

أخذ الموقف في التّماهي بسورياليته مع خاتمة مزرعة حيوانات أورويل...

تقاطعت نظراتي ثانيةً مع نظرات السّيّدة العذراء، وأظنّها كانت تبتسم هذه المرّة من موقعها على الحائط... ولا يزال سوء الفهم المتبادل قائمًا...

أمّا الخراء فقد عاد يطاردنا كشبحٍ أو لازمةٍ لحربٍ لم تنتهِ بعد.

المساهمون