يسعى كتاب "شرح ما بعد الطبيعة في ضوء منطق أرسطو: نظرية البرهان الفلسفي عند ابن رشد"، الذي صدر للباحث المغربي يوسف بن عدي عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، لمقاربة الإشكاليات التي تصوغ نصوص ابن رشد الفلسفية والمنطقية وطريقة تأويلها وفهمها العلاقةَ الملتبسة بين المنطق وعلم ما بعد الطبيعة.
ولمعرفة القول الرشدي في قطاعاته المنطقية والميتافيزيقية، يستحضر المؤلّف سمتَي الوحدة والتطور، ويعمد - من أجل بيان معالم القول الرشدي المنطقي وطرائق استعماله في القول الميتافيزيقي - إلى توسّل منهج تحليلي مع نقد معرفي ومنهج مقارنة ومعالجة فيلولوجية في قراءة تروم تعقّب التحوّلات التي تخلق المفاهيم والدلالات في تاريخ الفلسفة العربية الإسلامية والوسيطة.
إن المهمّ، بحسب الكتاب، هو بيان منزلة المنطق عند أبي الوليد بن رشد في معرض علاقته بالميتافيزيقا؛ تلك العلاقة التي لم تكن علاقة يسيرة وسلسة بمقدار ما كانت أكثر تعقيدًا والتباسًا وغموضًا، وهي تظهر في دلالات لفظ "المنطق" ذاته، فضلًا عن حضورها في الفلسفة الأولى.
قراءة تروم تعقّب التحوّلات التي تخلق المفاهيم والدلالات في تاريخ الفلسفة العربية الإسلامية والوسيطة
ويبدو أن دفاع ابن رشد عن أولوية المنطق في التعليم الفلسفي لم يكن غرضه الرئيس إحصاءَ العلوم وتصنيفَها، كما يشير المؤلّف، بل كان لهذا الأمر خلفية مذهبية وفكرية وبيداغوجية فائقة، بحيث حوّل المنطق من آلة عاصمة للفكر من التغليط إلى موضوع لترسيخ الدور الأنطولوجي للموجودات وسائر الأشياء.
ولهذا، يقول المؤلّف: "لم يكن من السهل علينا في هذا العمل المجازفة في البحث عن استعمالات المنطق في تفسير ما بعد الطبيعة، علمًا بأن المحقّق جمال الدين العلوي أعلن، على نحو قاطع، أن مبحث البرهان عاجز عن إشباع القول المُجدي في النظر في إشكالات الإلهيات والطبيعيات!".
ويعبّر استعمال كتاب "المقولات" المنطقي في القول الميتافيزيقي الرشدي عن التشابك بين النظر المنطقي والميتافيزيقي (الفلسفة الأولى)؛ حيث يوضح المؤلّف كيف أضحت مقولة الجوهر ــ الموسومة بـ "الأولية"، أو "الأفضلية"، أو "المشار إليه" ــ موضعَ التباس. بل أكثر من ذلك، لجأ ابن رشد، من أجل إضاءة اسم الجوهر في علم ما بعد الطبيعة، إلى ممارسة التأويل والتفسير، ومن ذلك اقتراحه قسمةً للجوهر: القسمة الرباعية الأولى والثانية في مقالة الزاي؛ والقسمة الثلاثية التي اعتمدتها مقالة اللام.
"لا مِرية في أن النظر في استعمال صناعة الجدل والسفسطة والقول الخطابي في الفلسفة الأولى إنما يساهم في إبراز أصول البنية الميتافيزيقية للقول المنطقي، ثمّ إنه يجعلنا نقف على الالتباسات والصعوبات التي تتوارى خلف استعمال ابن رشد صناعة المنطق في القول الميتافيزيقي"، يقول المؤلّف.
ويضيف: بيان ذلك أن من منافع صناعة الجدل دورَها الرائد والرئيس في إنتاج القول البرهاني؛ إذ يستطيع الفيلسوف، أو المبرهن، الاطلاع على الأقاويل المتضاربة والمختلفة في تاريخ الفلسفة. وهذا لا يمنع من مشاركة القول الجدلي القول البرهاني في مواضع معتبَرة، من قبيل عموم النظر والموجود المطلق، بل – فضلًا عن ذلك - التباس بعضها ببعض، كما تقول مقالة الباء؛ ففي هذا المعرض لم يكن بدٌّ من الإقرار بسلبية بعض الأحكام إزاء منزلة الجدل في القول الرشدي؛ إذ إن التغافل عن مستويات توظيف الجدل وحضوره في المتن الرشدي والغرض منه ربما يفوّت علينا فرصة التمييز بين الفلسفة والعلم عنده.
وللجواب عن سؤال مشروعيته في الحديث عن برهانية الفلسفة، أو في مدى استعمال ابن رشد القول البرهاني في نظر علم ما بعد الطبيعة، يشير بن عدي إلى أنه لا بدّ من التمييز بين البرهان كصناعة منطقية وحضورها في الفلسفة الأولى. فقد كان ابن رشد في سياق حديثه عن مبدأ عدم التناقض يتأرجح بين النظر المنطقي ونظر علم ما بعد الطبيعة، على الرغم من أن فصل القول لم يكن إلا للجانب الأنطولوجي الذي يظهر في تأسيس الوجود من حيث هو موجود في مقالة الجيم، ويضاف إلى ذلك هاجسُها الدلالي والإبستيمولوجي في البحث عن استقرار المعنى.
وقد اتّخذ اسم البرهان في نظر علم ما بعد الطبيعة دلالةَ التشكيك في منأى عن دلالة التواطؤ والاشتراك في الاسم، مما قد يحف بها من انعكاسات نظرية وفلسفية هائلة على العلوم والمعارف. والشاهد على ذلك مدى تحوّل مفهوم الحدّ من استخلاص ماهية الشيء من الفصول والأجناس إلى بيان وجود الشيء وصدقيته؛ ومن ثَمَّ لم يسعف مفهوم الحد، كمنتج لماهية الشيء، في بيان مبدأ عدم التناقض كمبدأ أنطولوجي، وهذا يعني أيضًا وجود مواضع مختلفة بين البرهان والميتافيزيقا. بل أكثر من ذلك كلّه، يمكن النظر إلى هذا التحوّل كدليل على تكييف ابن رشد نظرية الحد المنطقية مع النظر الميتافيزيقي، وذلك لاختلاف عالم الحدود في كتاب البرهان عن عالم الميتافيزيقا من جهة النظر.
ويستنتج المؤلّف من ذلك أن هذا التمييز الوظيفي في مفهوم الحدود "إنما يدفعنا إلى القول إنّ أبا الوليد بن رشد كان يتحدّث عن نظرية البرهان الفلسفي القائم على التشكيك والتقديم والتأخير، وعلى استراتيجية المنسوب إلى شيء واحد".