تتعدّد اشتغالات الفنانة اليابانية يايوي كوساما (1929)، بين الرسم والتصوير الفوتوغرافي والنحت والتركيب وصناعة الأفلام وتصميم الأزياء. وكانت بداياتها قريبة من التعبيرية التجريدية، ثم ارتبطت بفن البوب، واستندت تجاربها اللاحقة إلى الفنّ المفاهيمي الذي قاربت من خلاله أفكارها حول النِّسوية ومواجهة الصوَر النمطية حول النساء الآسيويات في الولايات المتّحدة والغرب بشكل عام.
كانت نشأتها في مدينة ماتسوموتو باليابان، ثم التحقت بـ"مدرسة كيوتو للفنون والحرف اليدوية" وتلقّت دروساً في أسلوب الرسم الياباني التقليدي المسمى "نيهونجا"، قبل أن تنتقل للإقامة في نيويورك وتصبح جزءاً من المشهد الطليعي في المدينة خلال ستينيات القرن الماضي، كواحدة من أبرز رموز الانطباعية التجريدية الأميركية. "بأثَر رجعي" عنوان المعرض الاستعادي لـ كوساما الذي يُفتتح في "متحف غروبيوس باو" ببرلين مساء الجمعة، التاسع عشر من الشهر الجاري، ويتواصل حتى الأول من آب/ أغسطس 2021، ويضمّ أعمالاً مختارة تمثّل تجربتها الممتدة قرابة سبعة عقود.
تتوزّع الأعمال المعروضة على مساحة تبلغ ثلاثة آلاف متر مربع، وتم انتقائها من ثمانية معارض للفنانة أقيمت بين عامي 1952 و1983، في محاولات لإضاءة تطور التقنيات الوسائط التي استخدمتها طوال هذه الفترة، بداية من رسومات الطبيعة في اليابان مطلع الخمسينيات ومروراً بأعمالها النيويوركية الأولى في العقد اللاحق، وما أضافته بعد ذلك على الثيمة المحورية في تجربتها المتعلقة بمحو الذات واللانهاية.
تُعرض سلسلة لوحات رسمتها في فترة مبكرة وتحتوي دوائر ومنحنيات صغيرة خلال بدايات إقامتها الأولى في الولايات المتحدة، حيث قادتها أفكارها الثورية الحماسية إلى الاحتجاج بالعُرْي ضدّ الهيمنة الرأسمالية، وصمّمت أزياء تعبّر عن معارضتها للنظام الاجتماعي المحافظ آنذاك، مناديةً بمزيد من الحريات الفردية.
أعمالٌ جرّبت في مساحات حرِجة بين الحياة والفن وتداخلهما
استمرّت يايوي كوساما بعملها على مساحات حرجة بين الحياة والفن وتداخلهما، وبين العقل والجنون، حتى وصلت إلى حدود الانهيار العصبي وتمّ تشخيص حالتها كنوع من متلازمة فصام الشخصية، وبقيت نزيلة مستشفى الأمراض العقلية لأربعة أعوام، وهو ما كرّس رؤيتها في محو الذات وعلاقة الفرد بالطبيعة والكون. علاقة ترى أنّها روحيّة وليست اجتماعية، ما جعل رؤيتها تتجاوز حدود خصوصيتها وثقافتها اليابانية.
بدأت كوساما بالتجريب في موضوعاتها منذ منتصف السيتينات، حيث راحت تبني تركيبات بحجم غُرفة، تضمّ مرايا وأضواء وموسيقى. هكذا، قدّمت مشروعها "حديقة النرجس" الذي عرضته في الدورة الثالثة والثلاثين من "بينالي البندقية" (1964)، وتم إيقاف عرضه، حيث كانت تدور ثيمته حول الترويج للفنان من خلال وسائل الإعلام، وذلك في نقدٍ لماكينة تسليع الفن في الغرب.
تتميّز تركيباتها المعقّدة بعدد من المرايا اللامتناهية، حيث تحتوي الأروقة المخصّصة لهذه التركيبات زجاجاً عاكساً من عشرات الكرات المعلّقة على ارتفاعات مختلفة فوق المشاهد، الذي يمكنه ــ حين يقف في الداخل فوق منصة صغيرة ــ مراقبة الضوء ينعكس بشكل متكرّر على الأسطح العاكسة، ما يخلق وهماً بوجود مساحة لا نهاية لها. يصاحب المعرض تقديم أفلام وثائقية وصور فوتوغرافية تضيء الطبيعة الثورية لفنّها الذي يمزج الموضة والفن والأداء، وتعطي فكرةً عن تجذّر كوساما في الحركات الاجتماعية والسياسية في الستينيات والسبعينيات، وتأثير أفكارها على العديد من الفنانين حول طمس الحدود بين جسدها ومحيطها، وبين الداخل والخارج، واستخدامها جسدها كبديل لأجساد المشاهدين، وصولاً إلى اللحظة التي تصبح فيها الذات موحّدة مع الطبيعة وجزءاً من الأبدية، وهي تصف ذلك بقولها "نمحو أنفسنا في الحب".