- ترك دَقّة إرثًا فكريًا وأدبيًا، مؤلفًا "صهر الوعي" الذي يناقش السياسة الإسرائيلية وأدوات الهيمنة الاستعمارية، ويعالج مواضيع مثل "الزمن والزمن الموازي"، موجهًا رسائله للأجيال القادمة.
- استمر في التحرر فكريًا ووعيًا رغم الاعتقال، حاصلًا على شهادة في العلوم السياسية وتزوج من سناء سلامة، وأنجب طفلته ميلاد من خلال نطفة محررة، مستخدمًا الرمزية والخيال في أعماله لتعزيز الوعي والهوية الفلسطينية.
منذ بدء حرب الإبادة الصهيونية على غزّة قبل نصف عام، والقلق والخوف يتزايدان على مصير "مُفكّر الحركة الأسيرة"، الأسير الفلسطيني وليد دَقّة، إلى أن أُعلن استشهادُه مساء أوّل من أمس الأحد، السابع من نيسان/ إبريل الجاري، أي في اليوم الذي أتمّ فيه العُدوان الإسرائيلي على غزة شهرَه السادس، وفي العام الذي يدخُل فيه دَقّة عامَه الثامن والثلاثين في الأَسْر، في ظلّ حَجْب مقصود مارسه الاحتلال على تفاصيل حالته الصّحّية، وفي فترة زمنيّة قريبة من استشهاد الأسير الشيخ خضر عدنان بعد 87 يوماً من الإضراب عن الطعام رفضاً لاعتقاله، ولا يزال جُثمان الأخير مُحتَجزاً في الثلّاجات الإسرائيلية منذ الثاني من شهر آب/ أغسطس الماضي.
كابَد الأسير الشهيد وليد دَقّة (1961) سرطان النُّخاع الشوكي تحت حراسة مُشدّدة في مشافي الاحتلال، بعد أن وصل إلى مرحلة مُتقدّمة في مرضه، بحسب ما أفادت زوجته سناء سلامة في تصريح سابقٍ لها لـ"العربي الجديد"، والتي حُرمت من حقّ زيارته بعد البدء بجلسات العِلاج الكيميائي منذ أكثر من شهر.
أمام مشاعر مختلطة من الغصة والغضب والفخر، نجدُ أنفسنا نلوذ بأعمال الشهيد الفكرية والأدبية، من مقاربته البحثيّة في كتابه "صَهْر الوعي" (2011، مع مقدمة من عزمي بشارة)، التي استقرأ فيها السياسة الإسرائيلية المتّبعة بحقّ الفلسطينيّين، مُستخدماً مفهوم "عقيدة الصدمة" للكاتبة الكندية نعومي كلاين، حيث تتناول فكرة إعادة تشكيل وعي الأفراد عبر تحطيم عالمهم المألوف، من خلال كارثة أو صدمة، وجعلهم مفتوحين على مرحلة من فُقدان الإحساس بالمكان والزمان، وعاجزين عن معرفة ھويّتهم الذاتيّة وما يتصوّرونه عن أنفسهم، وتحويلھم إلى لوح أبيض، يُمكِّن "الآخَر" من التَّغلغُل إلى دماغھم وزَرْع السُّلوكيات والمفاھيم المرجوّة.
قرأ الواقع المحتلّ انطلاقاً ممّا يُطبَّق بحقّ الحركة الأسيرة
تَنبّه المُثقف الشهيد، الذي اعتُقل في العام 1986، إلى علاقة ووجه شبه بين ما يُمارَس على الأسرى داخل السجن وما يُمارس على عُموم الناس خارجه، ليتوصّل إلى أنّ سلطة الاحتلال كانت تتّخذ الأسرى بصفتهم "النخبة الفلسطينية المقاومة" مُجتمعاً للدراسة والتجربة، بهدف تعميم سياساتها في ما بعد خارج السجن، فكانت نتيجةُ السياسات على الشعب الفلسطيني شعور أفراده المُشترَك بالعجز والقهر والقراءة المغلوطة للواقع وتبدّلاً في القِيم والمفاهيم. ومَرجِع هذا، بحسب دَقّة، إلى استخدام "إسرائيل" أدوات قمع وتعذيب "عصرية" أشدّ فتكاً، تستهدف العقل والروح بالمقام الأوّل، مثل عَزْل الأسرى بحسب المنطقة داخل السجون، وعَزْل المناطق الجغرافية خارجها بالحواجز، ومثل الوفرة المادّية النسبيّة المشروطة بالصَّمت أمام الكوارث والصدمات، وغيرها الكثير من الأمثلة كخلق كُلفة باهظة أمام أي فعل أو مُحاولة.
وبما أنّ أدوات التعذيب في حالتنا "حضارية" وغير ملموسة، يقف الفلسطيني في حالة من الذهول والصَّدمة عاجزاً عن توصيف ما يمرُّ به، وبالتالي عدم قدرته على تقديم حلول واقعية.
بتفكيك السياسات المُمارسة داخل السّجن وتحليلها، يُقدّم وليد في "صهر الوعي" فهماً لأدوات الاستعمار الحديثة التي تُمارَس في الخارج على الفلسطينيين، مستعيناً بقراءات ومقاربات عِلمية وأدبية أبرزها "الحداثة السائلة" لعالِم الاجتماع زيغمونت باومان، وقراءة لآلية السيطرة في نظام "المُشتمَل" بكتاب "المراقبة والمعاقبة" للفيلسوف ميشيل فوكو، و"عقيدة الصَّدمة" لكلاين، ونظام الرقابة الذاتية في رواية "1984" لجورج أورويل، وجُملة من القراءات التفصيلية للأحداث المُعاصرة. وعلى الرغم من شُحّ المصادر المتوفّرة داخل الأَسْر، إلّا أنّ دَقّة ظلَّ انتقائياً في تحديد مصادره المعرفية التي بنى بها أدواته التحليلية.
والمصادفة اللّافتة أنّ كتابة مقدّمة هذا البحث تمّت عام 2011 في "سجن جلبوع" الأشدّ تحصيناً، أي قبل عشرة أعوام من تحرُّر ستّة أسرى عبر نفق حفروه في ذات السجن.
الكتابة من الزمن الموازي
لم تخلُ رسائل دَقّة من التجارب الحميمة والتأمُّلات الإنسانية والقضايا الكُبرى، وهي تكشف عن ثقافة رفيعة في العلوم السياسية والاجتماعية كما في رسالته عن "الزمن والزمن الموازي" التي كتبها إلى عزمي بشارة، بمناسبة مرور عشرين عامًا في الأسر. يكتب: "نحن لمن لا يعرف في الزمن الموازي قابعون به قبل انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي ومعسكره الاشتراكي. نحن قبل انهيار سور برلين وحروب الخليج الأُولى والثانية والثالثة... قبل 'مدريد' و'أوسلو' وقبل اندلاع الانتفاضة الأُولى والثانية، عُمرُنا في الزمن الموازي من عُمر هذه الثورة وقبل انطلاقة بعض فصائلها".
قدّم في "صهر الوعي" فهماً لأدوات هيمنة الاستعمار الحديثة
اصطلح دَقّة فلسفياً مفهوم "الزمن الموازي" للتعبير عن الحالة الشعورية تجاه الزمن داخل الأَسْر، حيثُ ثبات المكان وانقضاء العُمر؛ العُمْر الزماني، والعُمر الاعتقالي. (حُوّلت الرسالة في ما بعد إلى مخطوطة مسرحية، كذلك اشتغلت عليها مجموعة من المسرحيّين في عرض أُقيم بحيفا عام 2014).
رأى دَقّة أنّ الإحساس بالناس وبألم البشرية هو جوهر الحضارة، وأنّ الاحتلال استهدف، ولا يزال، هذه النزعة الإنسانية على وجه التحديد: "قد تتبنّى أي قناعة سياسية تُريد ويُمكنك أن تُمارس شعائرك الدينية، وقد يتوفّر لك الكثير من الاحتياجات الاستهلاكية، لكن يبقى المُستهدف بالدرجة الأُولى الكائن الاجتماعي والإنسان فيك... المستهدف هو أي علاقة خارج الذات".
اعتُقل وليد دَقّة عام 1986 بتُهمة خطف وقتل جندي إسرائيلي، ردّاً على أحداث "مجزرة صبرا وشاتيلا" والأحداث في لبنان، قبل أن يُحكَم بالإعدام بداية الأمر وخُفّف إلى 37 سنة تُبِعت بسنتين إضافيّتين. وكان وليد، وهو من مواليد قرية باقة الغربية، قد التحق بـ"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، بداية الثمانينيات وفُرز ضمن ثلاثة أشخاص تدرّبوا أمنياً وعسكرياً ليقوموا لاحقاً بتشكيل ومُتابعة جهاز عسكري يعمل في الداخل المحتلّ، وترأّس هذا الجهاز رفيقه إبراهيم الراعي صاحب شعار "الاعتراف خيانة" والذي استُشهد لاحقاً تحت التعذيب داخل سجون الاحتلال.
استمرّ دَقّة في توصيف الواقع والحال في الأسر وخارجه عبر رسائله المُهرَّبة، يصف فيها تبدُّل القِيم والمفاهيم، منها رسالة حملت عنوان "لا لوز في السجن ليزهر" ممّا جاء فيها: "الأخطر هو أن تكتشف أنّ عالماً من المفاهيم اشتُقّ من قراءات قيمية مرتبِكة يتسلّل للمُناضلين في السجن، وهو عالَم الحقائق المُطلقة. ليحوّل بسهولة الجُرأة انتحاراً والتهوّر شجاعة. ولكي تغدو أصيلاً في عالم حداثوي يقتحم حياتك دون استئذان فإنك بسهولة تتبنّى التخلّف أيديولوجيا مواجهة. فتجد نفسك أمام جيل يقول الشيء ونقيضه. فيرى بالانضباط والنظام خنوعاً... ويُعارض القانون بالتمرُّد... وتُصبح في نظره بنفس الآن المِهنيّة غياب الانحياز... فيذهب بمفاهيمه أو يسير بقدميه بسهولة نحو مواقع الخلط بين الثورة والفوضى، وتضيع بين مفهومَي حرّية التحرّر والسلطة، جدلية أمة الوسط، فتتحوّل إلى واسطة. دون أن تُدرك أنّ هزائمنا ليس مردّها السياسة وإن كانت تتمظهر في السياسة دوماً".
فعل التحرُّر ولغته
درس دَقّة، داخل الأسر، في مجال العلوم السياسية، وحصل على شهادة البكالوريوس بالمراسلة، وأتبع ذلك برسالة الماجستير. وتزوّج عام 1999 الصحافية سناء سلامة التي تعرَّف عليها خلال زياراتها له ككاتبة مهتمّة بشؤون الأسرى. استغلّ خلالها وليد السياق السياسي العام، بعد "اتفاق أوسلو" ومحاولة "إسرائيل" أن تغسل صورتها، لينتزع حقّاً بأن يعقد القِران ويقضي برفقة زوجته يوماً داخل السجن، ضمن قيود وتضييقات على شكل الاحتفال، بمُناسبة استثنائية في تاريخ الحركة الأسيرة، لم تحصل من قبلُ ولا من بعد.
ظلَّ دَقّة يُمارس التحرّر فكراً ووعياً وأسلوب حياة، فكان له أن تُنجب زوجته طفلتهما ميلاد عام 2020، من خلال نُطفة حرّرها من داخل الأَسْر، لتتجلّى الرومانسية الأدبية في اسم "ميلاد وليد دَقّة" يتجسّد خارج السجن دلالةً ومعنى. وكان دَقّة عبّر عن رغبته بإنجاب طفل قبلها بسنوات، في رسالة مخطوطة إلى طفله الذي "لم يُخلق بعد" ميلاد، وكَتب لها: "حكاية سرِّ الزَّيت" (2018)، وهي جزء من ثلاثيّةٍ لليافعين، تضمّ إلى جانبها "حكاية سرِّ السَّيف" 2021، و"حكاية سرِّ الطَّيف" التي لم تصدر بعد.
نقل الأسير الشهيد عبر أكثر من قصّة قصيرة توثيقاً لمواقف أثّرت به، مثل "بدون باب"، حين كان يُهاتف طفلته ميلاد بعد عودتها من زيارتها الأُولى للبحر قائلاً لها إنه في المرّة القادمة هو مَن سيُرافقها إلى البحر، ليفاجَأ من نفيها منطق الفكرة كونه "لا يملك باباً"، يتنبّه وليد جيّداً لوعي طفلته وخيالها فقد أدركت الواقع خلال زياراتها له، رغم حرصه على عدم استخدام كلمة "سجن" أمامها. كذلك ينقل لنا توثيقاً لموقف استوقفه كتبه بعنوان "عمّي اعطيني سيجارة" خلال انتقاله من سجن إلى آخر يُصادف طفلاً يطلب منه سيجارة، وينقل لنا ارتباكه من وقع كلمة عمّي عليه، ومن القرار الذي عليه أن يتّخذه، فالولد "كان يخشى صغر سنّه في عالم قسوة السجن، فأراد أن يكون رجلاً وبسرعة".
عَبْر شخصية الطفل "جود" الذي جاء إلى الحياة عبر نطفة مُهَرَّبة، يسوق دَقّة قُرّاءه يافعين وكباراً في "حكاية سرّ الزيت" إلى الاشتباك بالواقع من خلال خلق وعيٍ مُكثّف في عالمٍ أدبي مُرمَّز، بِلُغة سَلِسة وبسيطة تشوبها العاميّة المحكيّة في الحوارات بين الشخصيات، فتبدأ القصّة بتخطيط جود (12 عاماً) لرؤية والده الأسير الذي تحرمه "إسرائيل" من رؤيته مذ جاء إلى الحياة، فيتمكّن بمساعدة مجموعة من الحيوانات ومفعول الإخفاء في زيت الزيتون الذي أهدته إيّاه الشجرة "أُم رومي" أن يصل إلى أبيه داخل السجن، وينقل عبر هذا المشهد حواراً مؤثّراً بين جُود وأبيه الأسير، ويقرّر بعدها أن يذهب إلى يافا برفقة أصدقائه الحيوانات.
يفتح دَقّة نافذة أمام الأطفال لرؤية واقعهم منذ البداية، بعقل نافذ ووعي غير مُنكسر، وهو ينقل لهم بالترميز الواقع المُركّب، عن النُّطف المُهرَّبة، والجدار الفاصل، والتنسيق الأمني، وقلع الأشجار، والمستوطنات، وعمّال التهريب، وسياسة هدم المنازل، ومصادرة الأراضي، والحرمان من السفر.
وعلى الرغم من ذلك كُلّه، يُعلّق دَقّة على قصّته: "لم يكن دافعي لكتابة 'حكاية سرِّ الزَّيت' الإبداع، وإنَّما الصُّمود داخل الأَسْر، ولم يكن الصُّمود مُمكناً، كلّ هذه السنوات الطويلة، دون أن أُحرِّر عقلي من زنزانته رويداً رويداً، وبقدر ما أرغب بالتحرُّر من السجن، أريد أن أنتزعه منّي".
في "حكاية سرّ السيف" يكبر جود أربعة أعوام، وتبدأ "إسرائيل" بالبحث عنه بتُهمة تهريب أطفال إلى بحر يافا عبر دهنهم بزيت الزيتون الذي يُخفي. ووظّف دَقّة في هذا الجزء من الثلاثية المغامرة والخيال والأسطورة والنكتة في سير الأحداث. يتقصّى جود قرية قاقون المُهَجّرة التي وصفتها له جدّة أحدهم، بحثاً عن جِرار من الجرجير وحَبّ الزيتون التي لها خاصيّتا الإخفاء والإظهار، وسط أجواء من الملاحقة والمغامرة، ويكون معه سيف، هو السلاح والمفتاح، وما إن يصل خابية في القرية حتى يضرب السيف في عرض الحائط فتنفتح الأرض على غُرف أسفلُها جِرار من المُونة والوثائق وحجج تعود لأهالي البلاد، ويختم القصّة بجملة "نَسْل الذاكرة لا يُنسى".
وفي كتابه "يوميات المقاومة في جنين 2020" (2004) يستنطق دَقّة المقاتلين الذين شاركوا في معركة مخيّم جنين، بأسئلة شيّقة ودقيقة، بعد أن أصبحوا رفاقه في السجن، ليُسجّل "وثيقة حيَّة وساخنة"، بحسب توصيف مقدّم الكِتاب زكريا محمّد، تروي فيها الوقائع اليومية بالتفاصيل، عن الاشتباك، وتكتيكات العدوّ وتكتيكات المقاومة، والأسلحة المستخدمة، والعلاقة مع أهالي المخيّم، والعلاقة مع وسائل الإعلام، وكلّ شيء.
ويُفرد في كتابه أربع شهادات تفصيلية، استجوب فيها: الحاجّ علي الصفوري، وجمال حويل، ويحيى محمد عبد الرحمن الزبيدي، وعبد الجبّار خليل خبّاص. ليكوّن مادة قابلة للنقد والتحليل والتطوير، هي الأُولى والوحيدة من نوعها عن معركة جنين 2002.
"لو سألتموني ما هو أهمُّ استخلاصٍ لك خلال هذه العقود الثلاثة التي أمضيتُها في السجن، لقلتُ إنَّنا فقدنا فلسطين لا لأنّنا ضعفاء، وإنّما نحن ضعفاء بفعل الجَهل، ومنقسمون بفعل الجهل. الجهل هو أشدُّ أعدائنا، والجهل هو أخطر السجون، وإنَّه يحوِّل عقلك لزنزانةٍ تحتجز فيها مستقبلك ومستقبل الأجيال القادمة".
* كاتب من فلسطين