تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أسئلة سريعة عن انشغالاته الإبداعية وجديد إنتاجه وبعض ما يودّ مشاطرته مع متلقيه. "أودّ لقاء الفارابي لأسأله لماذا لم يواصل تفكيره في إشكالية القاهر والمقهور التي بدأها في كتابه المدينة الفاضلة"، يقول المفكّر التونسي في حديثه إلى "العربي الجديد".
■ ما الذي يشغلك هذه الأيام؟
- في واقع الأمر مشاغلي كثيرة في زمن كورونا. أنتهز الفرصة لكتابة الجزء الثاني من سيرتي الذاتية الذي سأخصّصه لعلاقتي بالفلسفة، وكنتُ أصدرت منذ أيّام الجزء الأوّل وعنوانه "الذاكرة والمصير". كما أنني بصدد إنهاء مقال مطوّل حول الفلسفة في تونس؛ تاريخاً وبحثاً، وشرعتُ في كتابة مقال سيصدر في بلجيكا حول مفهوم الكرامة. كما وضعت النقاط الأخيرة لمراجعة ترجمة كتاب ألفته بالفرنسية وقد قام بترجمته الدكتور زهير المدنيني، وسيصدر عن أكاديمية "بيت الحكمة". هذا علاوة على نشاطي في "كرسي اليونسكو للفلسفة"، وسأحاول تنظيم مائدة مستديرة بالتعاون مع "معهد تونس للفلسفة" حول الفلسفة في تونس. وبصفتي منسّق "معهد تونس للفلسفة"، أنا أيضاً بصدد بعث سلسلة من الكتب الصغيرة حول إشكاليات العصر.
■ ما هو آخر عمل صدر لك وما هو عملك القادم؟
- كما ذكرت، آخرُ عمل صدر لي هو "الذاكرة والمصير: محطات في سيرتي الذاتية" عن "الدار المتوسطية للنشر" (تونس، سبتمبر 2020). كما أصدرت مؤخّراً كتابين، أولهما بعنوان "تحريراً لكيان" عن "دار لوسيل للنشر" في الدوحة، وصدرت ترجمة إلى العربية لكتابي الذي صدر بالفرنسية "الروح التاريخي في الحضارة العربية والاسلامية"، وهي ترجمة أنجزها كل من الأستاذين نورالدين السافي وزهير المدنيني وصدر أيضاً عن "الدار المتوسطية للنشر" في 2019. أمّا عملي القادم فسيكون إتمام الجزء الثاني من سيرتي الفلسفية.
■ هل أنت راض عن إنتاجك ولماذا؟
- لم أقم بعد بتقييم إنتاجي المتنوّع، ولكن لا بدّ من ذكر أنني ألّفتُ وأشرفتُ على تأليف أكثر من ستّة عشر كتاباً باللسان الفرنسي وما يزيد عن ثلاثة عشر كتاباً باللسان العربي، إضافة إلى عدد كبير من المقالات والبحوث. ومع ذلك وددتُ لو تمكّنت من تحقيق مشاريع أُخرى مثل تأليف كتاب عن التيارات الفلسفية في تونس منذ قرطاج إلى يومنا هذا. كذلك شرعتُ في كتابة مؤلّف ضخم حول فلسفة التآنس ولكني تركته جانباً لأني لم أجد الوقت الكافي لإعداده، فهو يتطلّب قراءات معمّقة في التراث الفكري العربي الإسلامي خصوصاً.
أودّ تأليف كتاب عن التيارات الفلسفية في تونس منذ قرطاج
■ لو قُيّض لك البدء من جديد، أي مسار كنت ستختار؟
- عندما كنت تلميذاً في الثانوي لاحظ أساتذتي أنني نابغة في الرياضيات، فوجّهوني عنوةً نحو الدراسات العلمية والرياضية فرفضت ذلك، فطلبوا من أبي أن يجبرني على اتباع العلوم الرياضية فرفضت مرّة أُخرى لأني كنت مغرماً بالشعر والأدب والفكر. اخترتُ بنفسي مسار الفلسفة ولو قُيّض البدء من جديد لاخترت دائماً الفلسفة لأنها في قناعتي عملية فكرية توضيحية ونقدية متجوّلة بين المعارف والممارسات الفنية، وهي في رحلتها الدائمة عبر العلوم والمعارف مدعوّة لمعالجة هذه المهمة مساهمةً منها في النهوض بعالمنا ليطيب العيش فيه.
■ ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟
- تهدف مباحثي الفلسفية إلى ما سمّيته بالتآنس وأعني العيش المشترك في كنف الاحترام لبلوغ سعادة البشر. لذلك أحلم بعالم التآنس، عالم السلام والوئام بين جميع البشر مهما كانت دياناتهم وانتماءاتهم ومواقفهم وغاياتهم، وألّا تكون العلاقات بينهم علاقات الغلبة بل التحاور العقلاني النزيه، لأنّ التناقضات والطبقات الاجتماعيّة والنضالات كلّها ستبقى دون شك. والرّهان أن يكون ذلك كلّه ضمن قاعدة التعايش والقوانين المسيّرة للمجتمع. لذلك يجب إعطاء الفلسفة القدرة على الدفاع عن سيادة الفرد الحرّ ضدّ التحيّز الجمعي دون أن يسقط الفرد في غياهب الوحدة والتفكّك. أعني الدفاع عن الحريّة وعن الحقّ في الاختلاف وعن الغيريّة.
■ شخصية من الماضي تود لقاءها، ولماذا هي بالذات؟
- أودّ لقاء الفارابي لأسأله لماذا لم يواصل تفكيره في إشكالية القاهر والمقهور الذي بدأها في كتابه المدينة الفاضلة؟ ولماذا لم يواصل تفكيره في ما يحرّك التاريخ، لأنّه بدأ في تحليل ذلك ورأى أنّ ما سماه في ما بعد ابن خلدون العصبية هو المحرّك الأساسي للتاريخ.
■ صديق يخطر على بالك أو كتاب تعود إليه دائماً؟
- أنا صديق الفارابي وأبي حيّان التوحيدي، أعود دائماً إلى كتاباتهما لأسألهما عن همومي وليمدّا لي يد المساعدة في استشكال المفاهيم التي أستعملها. لي أصدقاء آخرون بالمعنى الذي يُقرّه جيل دولوز للصداقة أي صداقة المفاهيم أمثال ميشال فوكو وجاك دريدا وكارل بوبر. لا أعود لكتاب واحد، أنا دائماً أتصفّح كتب أصدقائي الذين ذكرتهم كما أعود إلى مقدّمة ابن خلدون وكتب أفلاطون لأني أعشقها وأجد لذّة ومتعة في أقوال سقراط وطريقة حواره.
اخترتُ الفلسفة لأنها متجوّلة بين المعارف والفنون
■ ماذا تقرأ الآن؟
- أنا لا أقرأ الكتاب دفعة واحدة إلّا إذا كان رواية. أتصفّح الكتب في الآن نفسه. وبعد عمليات عديدة من التصفّح يمكن أن أواصل قراءة الكتاب حتى النهاية. وفوق مكتبي الآن أكثر من عشرين كتاباً بصدد تصفّحها، وسآخذ كتاباً بالصدفة هو لجاك بولان بالفرنسية وعنوانه "هل يمكننا الشفاء من العولمة" صدر عام 2017. أمّا قبل أن أنام، فأقرأ عادة رواية، ولكني في هذه الفترة أقرأ كلّ ليلة فصلاً من كتاب "زمان الأبيض والأسود" لعبد الواحد مكني (دار محمد علي الحامي، صفاقس 2019) يتحدّث عن ذكريات وأحداث وحكايات وقعت في صفاقس وما حولها.
■ ماذا تسمع الآن؟ وهل تقترح علينا تجربة غنائية أو موسيقية يمكننا أن نشاركك سماعها؟
- أنا دائم الاستماع إلى المالوف التونسي العتيق وبعض الأغاني المصريّة لأم كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ وشادية ووردة الجزائرية وبعض الأغاني التونسيّة لمحمد الجموسي وهادي الجويني، ولكني مغرم كثيراً بالموسيقى الكلاسيكيّة ولاسيّما باخ وموتسارت. ولا تعجبني الموسيقى المبتذلة والسريعة والتي تنوّعت أسماؤها وضعف إبداعها.
بطاقة
وُلد فتحي التريكي في مدينة صفاقس سنة 1947. درَس الفلسفة في باريس ودرّسها في جامعات تونسية وفرنسية. يدير حالياً "كرسي اليونسكو للفلسفة" عن المنطقة العربية. من أبرز مؤلّفاته: "الفلسفة الشريدة"، و"أفلاطون والديالكتيكية"، و"العقل والحرية"، و"الهوية ورهاناتها"، و"فلسفة الحياة اليومية"، و"الفلاسفة والحرب"، و"تحريراً لكيان". كما أصدر كتاباً مشتركاً مع رشيدة التريكي بعنوان '"فلسفة الحداثة".