وقفة مع عماد عبد اللطيف

04 يوليو 2022
(عماد عبد اللطيف)
+ الخط -

تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أسئلة حول انشغالاته وما يودّ مشاطرته مع قرّائه. "كلّما تصيبني حبسة الكاتب، أعود إلى ما أعتز بكتابته لأستمدّ منه حافزاً على استئناف المسير"، يقول الأكاديمي والباحث المصري في حديثه إلى "العربي الجديد".



■ ما الذي يشغلك هذه الأيّام؟ 

- أنهيت للتوّ عطلة صيفية قصيرة، واستأنفتُ العمل في إعداد ملف لمجلة "خطابات" عن خطاب المذابح في العالم العربي. في هذا العدد نأمل أن نحفِّز الباحثين على دراسة الأساليب التي استعملها الاحتلال الأجنبي لتبرير المذابح التي ارتكبها ضدّ أجيال من البشر على مدار القرون الأخيرة.

منذ تأسيسها، تسعى مجلة "خطابات" إلى دراسة أمراض الخطاب، مثل خطابات التلاعب والاحتلال والعنصرية والكراهية. وقد خصّصَت عددًا خاصًّا لدراسة التلاعُب في الخطاب. ويواصل العدد الذي نشتغل على الإعداد له تحفيز الباحثين على دراسة استراتيجيات التلاعب في سياقات محدّدة، استعمل فيها الاستعمار نصوصًا وخطابات متنوّعة لإضفاء شرعية ومشروعية على المذابح والجرائم ضدّ الإنسانية. هذه النصوص تقدّم مادة خصبة لدراسة استراتيجيات التلاعب، وتتيح دراستُها البرهنة على دور تحليل الخطاب في التصدي للجرائم ضدّ البشر بواسطة تعرية أدواتها. ومما يدعو للأسف، أن عالمنا العربي تعرّض لكثير من هذه الجرائم، وصل ضحاياها في بعض الأحيان إلى مئات الآلاف كما هو الحال في المذابح الفرنسية أثناء تحرير الجزائر، والمذابح الأميركية أثناء غزو العراق. ومع ذلك لم تحظ خطابات هذه الجرائم باهتمام الدرس العلمي المدقّق حتى الآن.


■ ما هو آخر عمل صدر لك؟ وما هو عملك القادم؟ 

- آخر كتبي صدر لي عام 2021، وهو طبعة مزيدة ومنقّحة من كتاب "البلاغة العربية الجديدة: مسارات ومقاربات". يقدّم الكتاب على مدار 640 صفحة مسارات لتطوير البلاغة العربية المعاصرة، وتطبيقات عليها. أمّا الكتاب الذي أعمل عليه منذ فترة فهو مخصّص لدراسة الاستجابة البليغة في نصوص متنوّعة مثل الأدب الشعبي، والشعر، والسينما. 


■ هل أنت راضٍ عن إنتاجك؟ ولماذا؟ 

- رضا الباحث عن عمله شعور متقلّب، يتباين من وقت إلى آخر، ومن عملٍ إلى عمل. بعض الأعمال أسعدُ حين أعيد قراءتها. في حين أقول لنفسي حين أقرأ البعض الآخر: "لو أنك صبرت عليها قليلاً لكان أفضل". وكلّما تصيبني قفلة الكاتب أعود إلى ما أعتز بكتابته لأستمدّ منه حافزًا على استئناف المسير. أحاول حينها أن أستمدّ ثقتي ممّا كتبتُ، مقنعًا نفسي بأنّني كتبتُ أعمالًا جيّدة، وأنّني أستطيع أن أقدّم مثيلاتها.

هناك بُعد آخر متّصل بالرضا يتعلّق بشعور الكاتب باكتمال مشروعه العلمي. وهذا أيضًا شعور متغيّر من حين إلى حين. بعدما انتهيت من تأليف كتاب "بلاغة الحرية" عام 2012، قلتُ لنفسي: "الآن يمكنني أن أموت وقلبي مستريح، فقد قدمتُ أهمَّ ما لديّ". بعد ذلك بأقل من عشر سنوات، قلتُ لنفسي العبارة نفسها، إثر نشر كتاب "البلاغة العربية الجديدة". وقبل أن أجري هذا الحوار مع "العربي الجديد" مباشرة، كنتُ أفكّر في الفجوات ونقاط الضعف التي يتعيّن عليَّ معالجتها في مشروعي العلمي. لذا أظن أنّ الرضا الناتج عن الشعور باكتمال المشروع العلمي بعيد المنال، أمّا الرضا التام عن النفس، فهو شعور نادر، ويقترن عندي بالقيام بالخير، خاصّة مساعدة الآخرين، وليس الكتابة.

لم تحظ خطابات جرائم الاستعمار باهتمام الدرس العلمي

■ لو قيّض لك البدء من جديد فأيّ سبيلٍ ستختار؟ 

- هذا سؤال صعب حقيقةً. منذ زمن طويل أؤمن بعبارة "لو علمتم الغيب لاخترتم الواقع". ولعلّ سبب هذا الإيمان هو أنّ معظم أحداث حياتي الشخصية والمهنية المحورية سارت وفق مخطّط واحد هو "إخفاقات متكرّرة يعقبها توفيق كبير". فقد اخترتُ دومًا طُرقًا غير مألوفة، سواء في البحث أو الحياة، وكان الثمن هو الكثير من المعاناة والإخفاق. في البداية، كان ألم الإخفاق كبيرًا حدّ العذاب، وبمرور الوقت لم يعد الإخفاق مصدر ألم عظيم، بل تحوّل إلى حافز مهمّ على مواصلة العمل، بعدما أدركتُ أن الإخفاق شرط للتوفيق. لذا أقلق كثيرًا حين أحقّق شيئًا ما مِن أول محاولة، وأظلّ متوجّسًا وقلقًا. وإذا قُيض لي أن أبدأ من جديد فسأختار السبل نفسها، غير نادم على شيء.


■ ما هو التغيير الذي تنتظره وتريده في العالم؟  

- عالمنا شديد القسوة والظلم. صباح اليوم فقط قرأتُ خبرين؛ الأول عن وفاة أكثر من 46 مهاجرًا داخل شاحنة أميركية بسبب الحرّ والعطش، بعدما هرب سائق الشاحنة وتركهم في عرض الطريق، والثاني عن قيام الشرطة اليونانية بتعرية طالبي اللجوء السياسي، وسرقة أغراضهم، وضربهم، وتأجير بلطجية، من اللاجئين أنفسهم، يلقون زملاءهم في عرض البحر ليغرقوا. هذه أخبار يوم واحد في عالمنا السعيد! تاريخ البشرية كومة عار كبيرة. حيثما نظرتَ حولك ترى تحالف الاستبداد، والفساد، والقهر، والهيمنة، والاستعمار الجديد والبؤس في كل مكان. أقلّ من عُشر الثروة التي يملكها شخص واحد من أغنياء العالم يمكنها أن تنقذ 45 مليون إنسان "يتأرجحون على حافة المجاعة في 43 دولة" بحسب تقرير الأمم المتّحدة لعام 2021. فثروة جيف بيزوس بلغت 177 مليار في العام نفسه الذي كان العالم يحتاج فيه إلى 7 مليارات فقط لإنقاذ 45 مليون شخص من الموت جوعًا! وما أنفقه أغنياء العالم على هواية الصعود إلى الفضاء يكفي وزيادة لتوفير الطعام والماء النظيف لكل فقراء الأرض.

تسألني عن التغيير الذي أريده في العالم؟! في الحقيقة نحن بحاجة إلى عالم جديد حرفيًا. عالم لا يتفاخر فيه الساسة بشراء المزيد من الأسلحة، وبناء المزيد من السجون، ولا يُبرَّأ فيه من يعذّبون الآخرين حتى الموت، ولا يتسلّم فيه المجرمون جوائز نوبل للسلام، ولا تتقاتل فيه الشعوب لأجل حفنات من الرمل أو التراب! أحلام بعيدة المنال، أليس كذلك؟

البلاغة العربية الجديدة - القسم الثقافي

■ شخصيّة من الماضي تودّ لقاءها ولماذا هي بالذات؟  

- لدي شوقٌ للقاء كثير من الشخصيات التاريخية، لا سيما من الكتّاب والفلاسفة الأقدمين. من بين هؤلاء أختار الجاحظ دون تردّد؛ فأنا أجده قريبًا إلى نفسي على نحو حميم. لقد تعلّقتُ مثله بالقراءة، والكتابة، حتى أصبحتُ أوثر متعتهما على أيّة متعة أُخرى تقريبًا. كما أنّني أحب أن أنظر إلى حياتي بوصفها معتكَفًا، ولأعمالي بوصفها استكشافًا، تمامًا مثلما كان عليه حال حياة الجاحظ وأعماله. ولكم أودّ أن أتناقش معه بشأن بعض أفكاره عن التواصل الإنساني، والخطابة، ومذهبه الاعتزالي، وسيرورة حياته. في مثل هذا اللقاء سأتحدّث قليلًا جدًّا، وأُنصت دائمًا، مثلما هو عليه الحال في معظم لقاءاتي بمن أقدّر وأحترم.

أقلق كثيرًا حين أحقّق شيئًا ما مِن أوّل محاولة

■ صديقٌ أو كتابٌ تعود إليه دائماً؟ 

- الكتب التي أعود إليها دائمًا كثيرة، منها روايَتا "سيد هارتا" لـ هيرمان هسه، و"العجوز والبحر" لـ إرنست همنغواي، وديوانَا أمل دنقل وصلاح عبد الصبور، و"ألف ليلة وليلة"، و"الطاو"، و"أصداء السيرة الذاتية" و"الحرافيش" و"أرخص ليالي" و"أيام الإنسان السبعة" وغيرها كثير.

لكنّني أودّ أن أتحدّث عن الصديق الذي أحرص دومًا على التواصل معه في كل شؤون حياتي منذ أكثر من ربع قرن، وهو أستاذ علوم اللغة حسام قاسم، زميلي في قسم اللغة العربية بـ"جامعة القاهرة"، وأحد أهم الباحثين في تخصّصَي النحو والدلالة في عالمنا العربي. رزانة حسام، وتفانيه، وحبّه للخير، واستقامته، ونزاهته، وطيبة قلبه صفات يعرفها عنه مَنْ عايشوه. وأعدُّ نفسي محظوظًا بحق لأنني أحظى بصداقته، وأشعر أن كوني صديقًا له هو في حدّ ذاته سبب للفرح والفخر معًا. لقد عرفتُ الكثير من الأصدقاء السيّئين، لكنّني نعمتُ كذلك بنعمة الأصدقاء الرائعين. ولهؤلاء، وعلى رأسهم حسام قاسم، أعبّر عن كلّ امتناني واعتزازي.


■ أيّ تجربةٍ غنائيّةٍ أو موسيقيّةٍ يمكننا أن نشارككَ سماعها؟ 

- مثل كثير من البشر، تشكًل الموسيقى بالنسبة إليَّ زادًا روحيًا يوميًا. فهي تصاحبني أثناء عملي، وأثناء استجمامي. اعتدتُ الدندنة بأغانيّ المحبوبة في كل مكان تقريبًا. لذا من الصعوبة حقًّا اختيار تجربة غنائية أو موسيقية بعينها لمشاركتها مع القرّاء الأعزّاء.

وعوضًا عن ذلك سأشير إلى بعض أكثر الأعمال تأثيرًا في روحي. وأبدأ من علي الحجار في أغانيه القديمة، خاصة ألبومَي "في قلب الليل"، و"أنا كنت عيدك" اللذين استمعت إليهما مئات المرّات، مرورًا بالمتفرّدين: أم كلثوم، وفيروز، وعبد الوهاب، ومحمد فوزي، ومحمد منير، ومدحت صالح، وآخرين. مؤخّرًا أصبحتُ أميل إلى الاستماع إلى فرق ومطربين أقلّ شهرة، لكن أعمالهم الفنّية أصيلة ومبدعة على نحو مذهل، مثل حازم شاهين و"اسكندريللا"، و"كايروكي"، و"المصريّين".



بطاقة

باحث وأكاديمي مصري، يعمل أستاذاً للبلاغة وتحليل الخطاب في "جامعة قطر". درَس في جامعتَي "القاهرة" و"لانكستر" البريطانية. من مؤلّفاته: "لماذا يصفق المصريون؟ بلاغة التلاعب بالجماهير في السياسة والفن" (2009)، و"استراتيجيات الإقناع والتأثير في الخطاب السياسي" (2012)، و"بلاغة الحرية: معارك الخطاب السياسي في زمن الثورة" (2013)، و"تحليل الخطاب السياسي: البلاغة، السلطة، المقاومة" (2020)، و"البلاغة العربية الجديدة: مسارات ومقاربات" (2021).

وقفات
التحديثات الحية
المساهمون