وقفة مع عبد الرزاق بلعقروز

13 نوفمبر 2020
(عبد الرزاق بلعقروز)
+ الخط -

تقف هذه الزاوية مع شخصية ثقافية عربية في أسئلة سريعة حول انشغالاتها الإبداعية وجديد إنتاجها وبعض ما تودّ مشاطرته مع قرّائها. "أؤمن بأنَّ أعمق تغيير هو التغيير الروحي القيمي، وهذا ما تأخّرت فيه الإنسانية رغم تقدُّمها تقنياً"، يقول الباحث الجزائري.


■ ما الذي يشغلك هذه الأيام؟

- تشغلني هواجس الثقافة اليوم. واليوم بالمعنى العُمراني ليس هو اليوم الزَّمني المكرور والعائد؛ إذ يعني لبناتٍ في البناء واجتهاداً يبذله المثقَّف من أجل الإسهام في تكوين الوعي المعرفي للإنسان. ودوماً هواجسي اليومية هي الكيفية التي تنتقل بها الأفكار من مثالها إلى واقعها، مِن عالم الأفكار إلى عالم المتخيّلات الاجتماعية، من العالم المعقول إلى العالم المحسوس، ومن أجل هذا، فإنني أشتغل، وبحرارة معرفية، على المنهج الذي يرتفع به هذا التقابُل العقيم بين الفكرة والواقع في ثقافتنا العربية، فبدأت تلوح لي معالم في أهمية التربية الفكرية وبناء العقل على أسس فكرية صلبة، لاحت لي أيضا أهمية الارتياض على مكارم الأخلاق كشرط حيوي لأجل الدُّخول إلى حركة التاريخ... حالياً، لا تشغلني كثيراً الأحداث العابرة ذات الصَّدى السياسي، تشغلني الأمور التي تُحرّك الإنسان كي يتحقّق بالحرية مفهومياً وبالحرية واقعياً.

لأننا حالياً، فاقدون للحماسة الحيوية لأجل الفعل في التاريخ، بتنا كائنات حية تنمو وتتغذَّى وتتوالد، من غير أن تكون إرادتنا هي مبدأ تشريعنا ولا أثر لنا في العالم... هاجسي اليومي هو تربية التفكير والارتياض على القيم الأخلاقية ودروب الآلام نحو الحضارة.


■ ما هو آخر عمل صدر لك وما هو عملك القادم؟

- آخر عمل صدر لي هو كتاب "تأمُّلات في مسائل فلسفية وفكرية حارقة" (2019)، وفيه حاولت أن أعيد للتأمُّل قيمتَه الحيوية، لأن التأمُّل في السَّائد الفلسفي انحصر في النظر المجرَّد، وبعد ثورات العصور العلمية ضد المفاهيم المثالية، انحسر التأمُّل وتم الحطُّ من قيمته بحجة الانتصار للعلم، إلّا أنَّ الأزمات الجديدة للإنسان المعاصر وللعلم، دفعت بالتفكير إلى إحياء التأمُّل كقيمة مركزية في الفكر الفلسفي، فكان كتابي تمريناً لفعل التأمُّل في العديد من القضايا الحارقة، مثل قضايا المنهج في العلوم والعلاقات بين العلوم، وأيضاً قيمة الإنسان في ظل الثقافة السائلة. 

أمّا كتابي المستقبلي فهو "روح الثقافة: متى تكون الثقافة قوّة"، وأحاول من خلاله إعادة بناء مقولة الثقافة، بوصفها نشاطاً نوعياً للإنسان وليست مجرّد أسلوب شعب ما في نمط حياته. كما أقمتُ أسس الثقافة على القيم الروحية الحافزة والرافعة، مؤكّداً أنّ الثقافة التي لا تتشرَّب المعاني الروحية هي لا ثقافة. حاولتُ، أيضاً، في فصل من فصوله، الإبانة عن دور الثقافة في ظل الجائحة البيولوجية أي الوباء، بالحديث عن دورها الحيوي وقيمتها المعرفية والأخلاقية، فقلتُ إننا في ظرف تتقدّم فيه قيمة الأمانة على قيمة الحرية، وإنّ دور الثقافة هو بث أخلاق العناية التي تقوم على الاستماع إلى انفعالات الناس ومرافقة همومهم الفردية والجماعية ورسم سبل للتجاوز والتحرُّر.


■ هل أنت راض عن إنتاجك ولماذا؟

- أبداً، لستُ راضياً عن إنتاجي، وإنما أعيش في برزخ بين نعم ولا، نعم لأنني في مسلك المعرفة والبناء الفكري للعقل الإنساني، ولا، لأنني لم أصل إلى اليقين، وبالتالي فأنا في برزخ بين اللّايقين والأمل، أقرأ وأجمع وأكتب وأنشر وأتحاور وأشارك في الفضاءات الإعلامية، لأنَّ دور الثقافة في الظاهر قليل، لكنها في العمق هي البناء الذي إذا انتهت مسائل المعرفة والسياسة، تبقى الثقافة ورموزها هي المحدّدة لكينونة الكائن.

أمّا لماذا لست راضياً، فإنني أعتبر أننا ما زلنا في أمس الحاجة إلى اكتشاف بؤر ثقافية وتفلسف آخر يملأ ربوع المعمورة، فالعالم ليس لوناً واحداً، بل هو ألوان وإمكانات متعدّدة، وليس النمط المعرفي الغربي إلّا إمكاناً من الإمكانات... لست راضياً لأنّ الثقافة العالمية المهيمنة لا تعرف ثقافتي ورموزي الفكرية، وبالتالي فدوماً يُراد لي أن أكون تابعاً... أريد أن أدخل إلى العالمية بثقافتي وبالجهود الفلسفية المبثوثة في خصوصيتي الثقافية والقيمية، وهكذا فلا بدّ لنا من توسيع أفق النَّظر نحو الفلسفات الشرقية والفلاسفة الذين يقعون خارج دائرة النمط الحضاري الغربي، وأريد أن أدفع بثقافتي إلى أفق العالمية، كي أحقق هذه التوليفة الجدلية المبدعة.

الثقافة العالمية المهيمنة لا تعرف ثقافتي ورموزي الفكرية

■ لو قُيّض لك البدء من جديد، أي مسار كنت ستختار؟

- لو قُيّض لي البدء من جديد لكانت نقطة الانطلاق هي الامتلاء بالوجدان السامي، وأيضاً تحويل القراءة إلى قيمة القيَم ضمن سلّم أولوياتي، لأن الوجدان السامي والقراءة المتواصلة، هي المعالم التي يهتدي بها الإنسان في ظُلمات الوجود، فلا شك أننا نأتي إلى العالم ونحن محمَّلون بإجابات جاهزة عن ذواتنا وكينونتنا، ولو أنّنا تعلّمنا السؤال والقراءة والتفكير لكانت انتماءاتنا الثقافية أكثر رصانةً وصلابة.


■ ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟

- أؤمن بأنَّ التغيير الجذري والعميق ليس هو ذلك الذي يخاطب قشرة الدماغ في الإنسان، ولا مصالحه وحقوقه. أؤمن بأنَّ أعمق تغيير هو التغيير الروحي القيمي الذي يجدّد الروح ويشعل سراج العقل، وهذا التغيير هو الذي تأخَّرت فيه الإنسانية رغم أنها تقدَّمت في مجالات التقنية. وكما أن الإنسانية أبرمت عقوداً سياسية من أجل نظام عالمي جديد، فستضطرّ إلى إبرام عقود من أجل إنسانية أخلاقية جديدة.

روح القيم وحرية المفاهيم - القسم الثقافي

■ شخصية من الماضي تود لقاءها، ولماذا هي بالذات؟ 

- أريد لقاء ابن عربي من السياق الأخلاقي المغاربي، وأريد لقاء نيتشه من السياق الغربي، أستفهم من الأول عن إمكانية تحويل "الأنفاس الرُّوحية" إلى إرادة قوّة وحركة تاريخية، وأستفهم من الثاني عن إمكانية أن تتأسّس إرادة القوّة على أنفاس روحية.


■ صديق يخطر على بالك أو كتاب تعود إليه دائماً؟

- يخطر على بالي صديقي المرحوم البشير ربوح، زكي النفس الذي غادرنا إلى الحياة الثانية، وهو في أوج فعل ثقافي، وأعود دوماً إلى رسائل أبي الحسن العامري الفلسفية، أجد فيها العبارة الشهية والفكرة القوية.


■ ماذا تقرأ الآن؟

- أقرأ الآن كتابات في الفلسفة الأخلاقية والمفاهيمية؛ من بينها: "الصّراع من أجل الاعتراف" لـ أكسيل هونيث، و"الفلسفة الأخلاقية: رهانات ونقاشات معاصرة" لـ ميشيل ميتاي، و"من علم إلى آخر: مفاهيم رحالة" تحت إشراف إليزابيث ستنغرس.


■ ماذا تسمع الآن وهل تقترح علينا تجربة غنائية أو موسيقية يمكننا أن نشاركك سماعها؟

- أستمتع بأغنية للفنّان الجزائري المرحوم كمال مسعودي، "يا حسراه عليك يا الدنيا"، وقد أعادها في حُلَّة قشيبة المغنّي المصري حمزة نمرة.


بطاقة

باحث وأستاذ في جامعة سطيف، شرق الجزائر، من مواليد 1981. حصل على دكتوراه في الفلسفة من جامعة قسنطينة في موضوع "المساءلة الارتيابية لقيمة المعرفة عند نيتشه". من إصداراته: "المعرفة والارتياب" (2013)، و"تحوُّلات الفكر الفلسفي المعاصر" (2018)، و"روح القيم وحرية المفاهيم: نحو السير لإعادة الترابط والتكامل بين منظومة القيم والعلوم الاجتماعية" (2017). كما أشرف على كتب جماعية؛ منها: "سؤال المنهج في العلوم الاجتماعية" (2019).

وقفات
التحديثات الحية
المساهمون