تقف هذه الزاوية مع شخصية ثقافية عربية في أسئلة سريعة حول انشغالاتها وجديد إنتاجها وبعض ما تودّ مشاطرته مع قرّائها. "للثقافة سلطةٌ تفوق بخطورتها السلطة السياسية، لِما لها من تأثير غير مرئيّ"، تقول الكاتبة والإعلامية الفلسطينية في حديثها إلى "العربي الجديد".
■ ما الذي يشغلكِ هذه الأيام؟
تشغلني أشياء عديدة، كالقراءة والكتابة. أحبّ القراءة منذ طفولتي، وما أزال. أيضاً يأخذ التفكير بما يحدث في فلسطين وسورية ولبنان والعراق، وتخيُّل حلول ممكنة، حيّزاً كبيراً من انشغالاتي الذهنية، خاصّةً بعد الانتكاسات التي حدثت وتحدث وتستمر بالحدوث على مستوى التغيير إثر ثورات الربيع العربي، وما أحدثته الانتكاسات من حالة يأس عارمة مصحوبة بالعجز عن فعل شيء. أمارس الرياضة بانتظام وأسعى للخروج من حالة الصدأ التي تلبّست روحي بعد سنوات العمل الطويلة في دبي وحياة العزلة الشخصية التي استمرّت بعد عودتي إلى بيروت. كانت عزلة طوعية بداية لأنأى بنفسي عن نمط الحياة في دبي، خارج أوقات العمل. أمّا في بيروت، فاخترت العزلة لتجنّب الاحتكاك في ظلّ حالة التموضع الطائفي في لبنان، والتي لا تشجع على إقامة علاقات إنسانية منتِجة وصحّية. اخترت العيش مع نفسي أيضاً لأنني أضجر بسرعة من الناس. لم يعد هناك ما يثير دهشتي للأسف.
■ ما هو آخر عمل صدر لكِ وما هو عملكِ القادم؟
آخر عمل هو رواية "خلسة في كوبنهاجن"، وهي تروي ذاكرة الشتات الفلسطيني البعيد لأبناء وأحفاد اللاجئين، وكيف يعيشون تداعيات النكبة المستمرّة على مستوى الهوية والانتماء. كمَا ثمّة سعي مريب لتجريدهم من أنفسهم، أو ممّا يريدون أن يكونوا.
■ هل أنتِ راضية عن إنتاجك ولماذا؟
راضية نسبياً. لا وجود لعمل كامل، كما أن لديّ نزوعاً نحو الكمال، وهو ما يبطئ إنتاجي الروائي. فضلاً عن حالة التشوّش الروحي الذي أعيشه. الاضطراب العالمي والانحطاط الأخلاقي والصمت على المظالم التي تعمّ العالم وتنتقل من بلد لآخر، خاصّة في فلسطين، حيث تتواصل الجرائم الإسرائيلية ضدّ أهل البلد؛ إضافة إلى تجاهل قضيّة اللاجئين وتهميشهم في العديد من الدول العربية، بل وارتكاب مجازر بحقّهم وتهجيرهم، كما حصل مؤخّراً في مخيم اليرموك في سورية، وكما حصل قبله في العراق ولبنان؛ كلّ هذا يفقدني القدرة على الاحتمال ويشلّ قدرتي على التعبير أو يخمد رغبتي في التعبير أحياناً. أعيش حالة من اللاجدوى، أو التبلُّد ربما. ربما بسبب اعتبارات شخصية تجعلني أشعر بالغربة حتى مع أقرب الناس إليّ.
الفظائع الجارية في العالم العربي تشلّ قدرتي على التعبير
■ لو قُيّض لكِ البدء من جديد، أي مسار كنت ستختارين؟
كنت أرغب أن أكون طبيبة. ربما جرّاحة. أو باحثة في الطبّ ــ حلم طفولتي. لكنْ جرت الرياح بما لا تشتهي السفن. وإنْ كان ثمّة حسرة في حياتي: هي أنني لم أحقّق هذا الحلم. طبعاً كانت الكتابة ستظلّ خياراً موازياً لا أتخلى عنه، حتى لو لم أكن غزيرة الإنتاج.
■ ما هو التغيير الذي تنتظرينه أو تريدينه في العالم؟
العدالة. من دون العدالة لا تستطيع البشرية أن تزدهر وتواجه الأخطار المحدقة بها، لا سيّما على صعيد التداعيات الكارثية لتلوّث البيئة والاحتباس الحراري وعوامل التبدّل المناخي. وما زال قادة العالم يصرّون على التصرّف بحماقة وإشعال الحروب وخلق الأزمات أو عدم الالتزام بوعودهم ومسؤوليّاتهم كقادة. أنتظر التغيير في العقلية السائدة التي ما زالت تصرّ على ذكورية تستعبد نصف الجنس البشري ــ أي النساء ــ وتعطّله عن المشاركة الكاملة الحيّة. هذه العقلية المريضة هي مصدر الاستبداد والحروب والتمييز الطبقي والاجتماعي. المجتمع البشري متخلّف ويحتاج إلى ثورة في الضمائر والعقول والقلوب. متخلّف لأنه يدرك المخاطر المحدقة به وما يزال ينتظر من قادة حمقى أن يقدّموا الحلول. تحتاج الشعوب كلّها ــ وخاصّة في فلسطين التي طال صَلْبُها ــ أن تجترح المعجزات وتبتكر أساليب خلاصها، ولا سيّما الأجيال الشابة، وتحديداً الشابّات والنساء اللواتي هنّ قادة التغيير، حين يتّخذن قرارَ استخدام قوتّهن الساكنة تحت غبار الذكورية.
■ شخصية من الماضي تودّين لقاءها، ولماذا هي بالذات؟
والدي، محمد راغب قبلاوي. فقدته باكراً بعد أن اغتالته المخابرات اللبنانية وأنا ما أزال في الرابعة من عمري، إثر الانقلاب الذي قام به "الحزب السوري القومي الاجتماعي" ــ الذي كان عضواً بارزاً فيه ــ أواخر عام 1961. لا يمرّ يوم لا أفكر فيه بوالدي، حدّ البكاء.
■ صديق/ة يخطر على بالك أو كتاب تعودين إليه دائماً؟
نور صويص، أم خالد، وهي أرملة الشهيد جورج عسل أبو خالد، الذي كان من مؤسّسي "الكتيبة الطلابية" وترك أثراً لا يُمحى في العديد من شباب وشابّات "الكتيبة". أم خالد أيضاً تركت أثراً فيّ لا يُنسى، بأصالتها النضالية وصبرها وحبّها لأبي خالد وحكاياتها معه. لكنّ هنالك أصدقاءً آخرين يخطرون على بالي وقد تقطّعت طرقاتنا بسبب التغيير الذي طرأ على مواقفهم ومبادئهم. لا أحتمل النفاق أو التخلّي عن القيَم الإنسانية وتشويه الحقائق أو المساومة على القيَم المطلقة. الناس تتغير، لكنّ قلة مَن يحافظون على هذه القيَم من أجل مصالح بخسة. هذا يسبّب جفاءً، لكنّ المودة والمحبة ما زالتا موجودتين لديّ.
أعود إلى كتاب "صوَر المثقّف"، لإدوارد سعيد، كي أحمي نفسي من الانزلاق في ازدواجية المعايير والنفاق والتقرُّب من السلطات التي غالباً ما تكون جائرة، خاصّة أنني كإعلامية وكاتبة معرّضة للتواطؤ على نفسي ومبادئي بسبب الأعراض الجانبية للمهنة، سواء في الصحافة المكتوبة أو المتلفزة. علماً أن للثقافة سلطةً تفوق بخطورتها السلطة السياسية، لما لها من تأثير غير مرئي يتغلغل إلى اللاوعي، وليس إلى الوعي فقط. لهذا، هي أشبه بسيف ذي حدّين. دائماً ما أعود، أيضاً، إلى روايات فرانز كافكا، خاصّة "الانمساخ". أعتبره من أعظم الروائيين على مرّ التاريخ، وهذا التقييم لن يتغيّر، لأن كافكا لن يتكرّر باعتقادي. نبّهتني هذه الرواية إلى أن أراقب نفسي وألّا أتحوّل إلى شخصٍ لا أحبّ أن أكونه.
ثقافتنا العربية مقصّرة بحقّ الأطفال والأدب المكتوب لهم
■ ماذا تقرأين الآن؟
أقرأ الروايات الجديدة، وأعيد قراءة روايات قديمة أحببتها في صغري. كما أقرأ حالياً نيتشه وكتباً فلسفية أخرى كنت قرأتها، وأُخرى لفلاسفة جدد مثل سلافوي جيجيك. أُجري دائماً أبحاثاً حول مواضيع وقضايا ثقافية وسياسية، لا سيما على المستوى الفلسفي والنسوي. هنالك رواية أقرأها وأعيد قراءتها دائماً، أثّرت بي مؤخّراً بشكل لا يوصف، عنوانها "المعادلة الإلهية"، من تأليف الكاتب البرتغالي جوزيه رودريغز دوس سانتوس. إنها رائعة، لناحية الموضوع والحبكة الفنّية والتشويق ومتعة القراءة. لكنّ الأهم أنها تتناول أبعاداً فلسفية عميقة. أحبّ الروايات ذات الأبعاد الإنسانية والفلسفية.
■ ماذا تسمعين الآن، وهل تقترحين علينا تجربة غنائية أو موسيقية يمكننا أن نشاركك سماعها؟
لا أسمع الكثير من الأغاني إلّا في فترات متقطّعة، باستثناء أغاني الأطفال التي أتشاركها مؤخّراً مع حفيدتي الجديدة، أليكس، وهي تطرب لسماعها جدّاً. نحن مقصّرون ــ كثقافة عربية ــ في حقّ الأطفال، وفي أدب الأطفال ومسرح الأطفال بكلّ تفرعاته. فالأطفال ليسوا حيوانات أليفة نربّيها ونطعمها ونلاطفها.
أحبّذ حالياً سماع الموسيقى الصوفية والروحانية التي تنقلنا إلى عوالم روحية نقية بعيداً عن الضوضاء والتوتّر. مع هذا، هناك الكثير من التجارب الموسيقية الشبابية التي ينبغي متابعتها عبر العالم، لما لها من تأثير في صقل الذائقة السمعية لشبابنا وشابّاتنا، كي تضيق المسافات بين الأجيال. وأحتفظ بحبّي لكلاسيكيات الأغنية العربية التي ما أزال أسمعها من حين لآخر، مثل فيروز وعبد الحليم حافظ وأم كلثوم وسيّد مكاوي وسيّد درويش ونجاة الصغيرة وفايزة أحمد، والقائمة طويلة.
بطاقة
روائية وكاتبة صحافية وإعلامية فلسطينية، وُلدتْ عام 1957 في بيروت لأبوين فلسطينيين. حاصلة على إجازة جامعية في الإعلام (1989)، وعلى ماجستير في التربية (1997). عملتْ منتجةَ برامج تلفزيونية في قناة "دبي". صدرت لها روايتان، كلتاهما لدى "دار الآداب": "حليب التين" (2010) و"خلسة في كوبنهاغن" (2014). شاركتْ في العمل الوطني الفلسطيني لسنوات طوال. وتُنهي حالياً العمل على رواية ثالثة بعنوان "أرض الحب والغياب".