وقفة مع رياض حمودة ياسين

11 ابريل 2022
(رياض حمودة ياسين)
+ الخط -

تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أسئلة سريعة حول انشغالاته الإبداعية وجديد إنتاجه وبعض ما يودّ مشاطرته مع قرّائه. "يبدو أن التسارع الهائل في الاتّصال والتواصل، وما يرتبط بهما من أدوات ووسائل، له تأثير مباشر وفعّال في رسم معالم ثقافات جديدة"، يقول الباحث والأكاديمي الأردني في حديثه إلى "العربي الجديد".


ما الذي يشغلك هذه الأيّام؟
أهمُّ انشغالٍ لي محاولة فهم العلاقة بين السياسيّ والثقافيّ في عالمنا، وصرتُ مستسلماً لفكرة أن الساسة في العالم نجحوا في فرض أدوات ومفاهيم جديدة من خلال المعادلة التكنولوجية التي أحدثت تأثيرات مصيرية في حياة البشرية.

لقد أثّرت التطوّرات التكنولوجية والرقمية في مسار حياة الأمم والشعوب، ورسمت علاقات بمقتضى مفردات خاصّة بالعولمة باتت تغيّر شكل اتّجاهات البشر حول الثقافة الحياتية بمختلف أشكالها. ويبدو أن المؤثّرات التقليدية في حياة الأمم والشعوب باتت تحتلّ مساحات ضيّقة من حياتنا، وطغت على حياة الناس ثقافة من نوع خاصّ ارتبطت بمجمل التطوّرات العِلمية والتكنولوجية التي بدأت مع بروز العالم الصناعي في الربع الأخير من القرن الثامن عشر، حيث أخذ العالم يتّجه نحو إدراك أهمّية الآلة التي سخّرها لخدمته وقتاً طويلاً، وها هي الآلة تتفوّق على صانعها ضمن معادلة الذكاء الاصطناعي.

وفي هذا السياق، يفرض التنوّع الثقافي على الدول أن تعيد حساباتها من جديد في التفكير في الحصون الثقافية التي تحمي المجتمعات من الذوبان السهل في محيطات الثقافات السائدة والمؤثّرة في العالم، فلم يعد هناك مَن يركن على ذاكرته التاريخية فحسب، ظانّاً أن هذا الإرث التاريخي سيكون حلّاً سحرياً للخروج من كلّ المآزق التي قد يتعرّض لها المجتمع جرّاء الطوفان الثقافي القادم من العالم الأكثر تأثيراً، وأعني هنا الثقافة الآتية من أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأميركية ومجموعات الدول الناهضة في الشرق الأقصى التي باتت تنتشر قسراً نتيجة العولمة، فالمنتج الثقافي أكثر انسياباً من المنتجات الأخرى، لأنه في كثير من الأحيان لا يحتاج للمرور في أي نوع من الحدود.

يبدو أن التسارع الهائل في الاتّصال والتواصل، وما يرتبط بهما من أدوات ووسائل، له تأثير مباشر وفعّال في رسم معالم ثقافات جديدة بدأت تتشكّل وتقفز على أشكال ثقافات الشعوب وقومياتها، فنحن على ما يبدو أمام مسار جديد لحركة التاريخ، مسار يقود نحو ثورة على كلّ المؤثرات والتكوينات الاجتماعية والثقافية.


ما آخر عمل صدر لك؟ وما عملك القادم؟
صدر لي كتاب "التكوين السياسي والتاريخي لمدينة القدس"، وقد فاز بجائزة أفضل كتاب عن القدس ضمن "مهرجان زهرة المدائن" (2021) في القدس. وهو منشور في بيروت لدى "مؤسّسة القدس الدولية"، عام 2020.

يتناول الكتاب تشكُّلَ التاريخ السياسيّ لمدينة القدس عبر العصور المتلاحقة، منذ العصر الكنعانيّ وصولاً إلى عصرنا الحالي، ويعتني بعرض التطوّر التاريخي للمدينة من الناحية السياسية والدلالات السياسية لكثير من الحوادث المهمّة التي مرّت بها.

ويغوص الكتاب في تاريخ القدس القديم، ولا سيّما مع نهاية الألف الرابع قبل الميلاد، ليرسم ملامح حضور الشخصية الكنعانية لفلسطين والقدس. ثمّ يستعرض الأقوام والشعوب التي سكنت المدينة، مبيّناً أن الحضور العربيّ الكنعانيّ بقي عاملاً ثابتاً على مدار العصور التي شهدت فيها القدس تنوّعاً في الغزاةِ والمحتلّين، فيما كان الحكم اليهوديّ للمدينة طارئاً وقصيراً، إذ لم يدم سوى 70 عاماً تقريباً.

ويستفيض الكتاب في استعراض تاريخ المدينة في عهد الدولِ الإسلاميّةِ المتعاقبة، منذ الفتحِ الإسلاميّ لها حتّى الاحتلال البريطانيّ عام 1917، ذاكراً أبرز الأحداث التي شهدتها المدينة المقدّسة، واهتمام المسلمين بها. ويضيء أيضاً سقوط القدس بيد الصليبيّين، وجهود تحريرها التي تُوِّجت بفتح صلاح الدين الأيّوبيّ عام 583 هـ/ 1187 م. ويتوقّف عند المرحلة التي وقعت فيها القدس تحت سيطرة بريطانيا بعد الحرب العالمية الأولى حتى تأسيس كيان الاحتلال في أيار/ مايو 1948، ويُبرِز دور بريطانيا في تسهيل استيلاء اليهود على أراضي القدس، ودعمها للعصابات الصهيونيّة.

ومن واقع خبرة عمليّة، واطّلاع معرفيّ، يعرِّج الكتاب على الدور الأردنيّ في القدس في قراءة سياسية تحليلية، ولا سيّما بين عامَي 1948 و1967، مركّزاً على المسجد الأقصى، ومفهوم "الوضع القائم" الذي يعني حصرية الإدارة الإسلامية للأقصى، مبيّناً سعْيَ الاحتلال إلى نسفِ هذا المفهوم، وفرض سيطرته الكاملة على المسجد.

ويقدّم العمل إحاطةً تاريخية سياسية بالقدس في القانون الدوليّ، مستعرضاً أبرز القرارات التي أصدرتها المنظّمات الدولية حول المدينة، وحيثيات هذه القرارات، وصولاً إلى مشاريع التسوية والمواقف الدولية وعرض للطروحات المستقبلية للمدينة في ظل توازن القوى والواقع القائم.

حالياً، أشتغل على إسهامات الأردنيين الأدبية في الكتابة عن القدس على مدى مئة عام، وأخيراً نشرت بحثاً في مجلّة "أفكار" التابعة لوزارة الثقافة الأردنية تناولت فيه بعضاً من إسهامات الأردنيين في الكتابة عن مدينة القدس.

لا يحتاج المنتج الثقافي للمرور في أيّ نوع من الحدود


هل أنت راضٍ عن إنتاجك؟ ولماذا؟
الباحث الجاد يبقى مسكوناً بكثير من الأفكار التي يودّ أن تولد، وأجد أن أهمّ الأبحاث لم يُكتب بعد. وبصفتي باحثاً في الشؤون التاريخية والسياسية، أجد صعوبة في كثير من الطروحات التي أودّ الخوض فيها نتيجة غياب المصادر، وأعني هنا الوثائق اللازمة للكتابة، فالحصول على معلومات من الوثائق في بلادنا العربية من العقبات أمام البحث العلمي الجادّ وأمام كل مَن لديه مشروع فكري لاستجلاء الحقائق والوقوف على القضايا المهمّة المرتبطة بشخصية أمّتنا وهويتها وعلاقتها بالعالم. أمّا عن هامش الحرّيات المتاح للكتابة في كثير من الموضوعات التي تشتبك مع الدينيّ والسياسيّ والثقافيّ، فهي من التابوهات في عالمنا العربي، حتى بعد الثورة الرقمية والتكنولوجية.


لو قُيّض لك البدء من جديد، فأيّ سبيلٍ ستختار؟
لا أستطيع مقاومة توجّهي الأدبي وأحلامي في الكتابة، وربما اخترت أن أتخصّص في المجال التاريخي والسياسي، وأضيف معارف مهمّة من تعلّم لغات أجنبية وعلوم مساندة ساعدتني على أن أشكّل ذاتاً معرفية خاصّة أسعى دائماً لتطويرها، فكنتُ مسكوناً وشغوفاً بالقراءة في الأدب والتاريخ والسياسة والقانون والأنثروبولوجيا والبحث في ثقافات الأمم القديمة والحديثة، لأجد هذه الأيام أن التخصّصات والحقول قد تغيّرت وتلوّنت بألوان لا نستطيع ــ نحن جيل الثمانينيات والتسعينيات ــ أن نتواصل بسهولة معها. لقد جاءت العولمة لتقضّ مضاجع تلك المبادئ للثقافات القومية المتنوّعة التي لطالما تعبتُ وجهدتُ في البحث عنها وتأصيلها، والآن أراها في طَور الذوبان، كما ذابت أحلامي القديمة في بحر الأسى الذي عشناه في العالم العربي نتيجة الوعي الذي كان وبالاً علينا نحن المثقّفين في حقبةٍ كان الوعي فيها سلاح المثقف الحقيقي. أمّا الآن، فقد تغيّرت المعادلة مع الاقتصادات المعرفية ولغة العولمة واللغات الرقمية التي باتت تتحكّم في مصائر البشرية وتفرض نفسها على كلّ حراكٍ مستقبليّ.


ما التغيير الذي تنتظره وتريده في العالم؟
معادلة البقاء للأصلح باتت لا تصلح، فالبقاء للأذكى والأكثر قدرة على المنافسة في عالم الرقمنة. وأظنّ أن تشييء الإنسان بات عنواناً لكثير من التوجّهات، ولا يخفى على أحد أن كثيراً من الثقافات، وحتى الأديان، باتت عرضة للذوبان والانصهار في غيرها ضمن معادلة جديدة لمستقبل العالم الذي بدأ يبحث عن أشكال جديدة للتحالفات تنسخ التحالفات القديمة، وصولاً إلى حكومة عالمية تُنهي كلّ الخصوصيات الأممية الثقافية. وأنا أنشد السلام والوئام بين الأمم وأخشى من فرْض الهيمنة والاستقواء الذي بات يحكم كثيراً من مشاهد حياتنا.


شخصيّة من الماضي تودّ لقاءها ولماذا هي بالذات؟
الخليفة العبّاسي المأمون، الذي أحدث تحوّلاً مهمّاً في الفكر الإسلامي السياسي والإيديولوجي وربما له الفضل في إثراء المشهد الثقافي وتنوّعه، فقد ساهم بحركة نقل الآداب والثقافات الأخرى إلى اللغة العربية، ومع المأمون شهدت الدولة الإسلامية صعود نجم المعتزلة في التاريخ الإسلامي كنقطة فارقة، ويُسَجّل له أنه جعل من "بيت الحكمة" مركزاً لترجمة الكتب اليونانية وعرَفَ الناسُ بفضله فلاسفة اليونان، مثل أرسطو وأفلاطون، وانتصر للعقل والعلم.


صديقٌ أو كتابٌ تعود إليه دائماً؟
خير جليس في الزمان كتابُ: أحبّ كتاب "الإمتاع والمؤانسة" لأبي حيّان التوحيدي، فهو أجمل كتاب للمسامرة والحكمة والعبرة الحياتية.


أيُّ تجربةٍ غنائيّةٍ أو موسيقيّةٍ يمكننا أن نشارككَ سماعها؟
أعشق كلاسيكيات الموسيقى العربية، وأفضّل سماع أمّهات القصائد العربية المغنّاة بصوت أم كلثوم، وأدندن كثيراً "ألف ليلة وليلة"، و"رباعيات الخيام"، و"الحلم"، وأغاني عبد الحليم حافظ كذلك، وخاصّة قصائد نزار قباني.


بطاقة
باحث وأستاذ جامعي من مواليد عمّان عام 1973، يحمل درجة الدكتوراه في تاريخ العصر الإسلامي الوسيط. أصدر مؤلّفات عدّة، منها: "التكوين السياسي والتاريخي لمدينة القدس" (2020)، و"تاريخ القدس السياسي والحضاري" (2012)، و"اتّجاهات الكتابة التاريخية عند العرب: دراسة في أعمال البيروني الأدبية والتاريخية" (2008)، و"موجز تاريخ القدس: السجلّ الزمني للمدينة" (2005). ونشر عدداً من الأبحاث، منها: "حركة الترجمة من الهندية إلى العربية في العصر العبّاسي: دراسة في أهمّيتها وتطوّرها" (2015)، و"صورة المرأة في التراث الشفوي الأردني" (2008)، و"القدس في أدب الأردنيين" (2021).

وقفات
التحديثات الحية

 

المساهمون