تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أسئلة سريعة حول انشغالاته الإبداعية وجديد إنتاجه وبعض ما يودّ مشاطرته مع قرّائه. "ندرك كلّ يوم أننا نعيش في عالم يزداد ضيقاً بالصور المتعدّدة، ونفوراً من الاختلاف"، يقول الناقد المغربي لـ"العربي الجديد".
■ ما الذي يشغلك هذه الأيام؟
- ما يشغلني هذه الأيام هو قراءة أعمال الناقد الروسي الفذّ ميخائيل باختين، الذي تتميّز نظرياته بكونها مؤسَّسة على منظور للأدب يشكّل مجاوزةً للجمالية الرومانسية التي ركّزت على استقلال العمل الفني، كما أنها تمارس تأثيراً قويًاً على النقد العالمي المعاصر. يتعاظم اليوم الاهتمام بأعمال هذا المعلّم الروسي، وثمة جهود كبيرة تُبذل من أجل الاقتراب من سيرته الفكرية على ضوء ما ظهر من وثائق وشهادات، وأيضاً من أجل إعادة قراءة منجزه من منظورات نقدية جديدة، وهو ما يكشف راهنية هذا المُنظر، والفائدة الكبيرة التي يقدّمها مشروعه للثقافة العربية المعاصرة.
■ ما هو آخر عمل صدر لك وما هو عملك القادم؟
- آخر عمل صدر لي حمل عنوان: "الكتابة النقدية عند محمد برادة: المرجعية والخطاب" (2020)، وقد سعيت فيه إلى الولوج إلى عالم محمد برادة النقدي، وهو عالم رحب، غنيّ وواسع، منذ بدايات تكوّنه في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، إلى المرحلة الراهنة. في هذا الكتاب عرّفت بإنجازه في حقل النقد الأدبي المعاصر، على المستويين النظري والتطبيقي، وبيّنت دوره الفاعل في تأسيس النقد المغربي الحديث وتجديد أدواته وتنويع مرجعياته، وخلصت فيه إلى استنتاجٍ مفاده أن محمد برادة ناقدٌ تأويلي، فهو يدرس النصّ الأدبي العربي على أكمل وجه ممكن، بالكشف عن مقوّماته الجمالية وأساليبه الفنية وعلاقتها بالحقبة التاريخية التي أُنتج فيها. في ما يخصّ أعمالي القادمة، لديّ مجموعة من المشاريع حول الرواية المغربية المعاصرة، والنظرية الأدبية، وأيضاً في الترجمة، ولقد قطعت في إنجازها شوطاً مهمّاً، وأتمنّى أن تجد الطريق إلى النشر.
■ هل أنت راض عن إنتاجك ولماذا؟
- أن يشعر الإنسان بالرضا عن إنتاجه، هذا معناه التسليم بأنه انتهى ولم يعد في إمكانه أن يضيف أو يقدّم أيّ جديد. لذلك لا أرى إلى إنتاجي على أنه مكتمل أو ناجز. الإنسان ينبغي أن يطمح دائماً إلى التطوّر والارتقاء لتقديم الأفضل. يتطلّب هذا بذل مزيد الجهد، كما يتطلّب الصبر والتأنّي والبحث والاطّلاع الواسع على ما يُكتب في حقل الاهتمام، وفي الحقول الأخرى المجاورة. وهذا ما أحرص على القيام به، مسنوداً بالحبّ الذي أكنّه للقراءة والكتابة والبحث. بالطبع، عندما أنظر إلى العمل الذي أقوم به، والشروط التي أشتغل في إطارها، كوني لست متفرّغاً للكتابة والبحث، وثمّة التزامات تضغط بقوّة، مع ما يقتضيه ذلك كله من جهد وصبر ونشاط متواصل، أشعر بالرضا، نسبيّاً، لأن شيئاً ما يتحقّق ويثير الاهتمام.
■ لو قُيّض لك البدء من جديد، أي مسار كنت ستختار؟
- أعتقد أنني سأختار نفس الطريق، أي الكتابة والتدريس. وربّما كنت سأهتمّ أكثر بالفلسفة، لأن ما يتعلّمه الإنسان منها لا يمكن أن ينساه أبداً.
■ ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟
- التغيير الذي أنتظره هو أن يسود العالمَ السلامُ والمحبّة والتعايش والاعتماد المتبادل، وهذا ما يبدو لي بعيداً، لأنّنا ندرك كلّ يوم أنّنا نعيش في عالم يزداد ضيقاً بالصوَر المتعدّدة، ونفوراً من الاختلاف والتنوّع. كما أنتظر أن يرتقي عالمنا العربي إلى مصاف الدول الديمقراطية التي تقدّر شعوبها وتحرص على كرامتها وحرّيتها. تحتاج المجتمعات العربية ــ وهي تواصل تطلّعها إلى الموقع الذي يؤهلها للإسهام في الحضارة المعاصرة ــ إلى التسلُّح بالديمقراطية، والفكر التنويري، والاحترام التامّ لحقوق الإنسان، وضمان التعليم والثقافة للجميع.
■ شخصية من الماضي تود لقاءها، ولماذا هي بالذات؟
- أبو حيان التوحيدي، الأديب الموسوعي والمفكّر الأنسنيّ الذي يشغل موقعاً فريداً في الثقافة العربية، وتشكّل مؤلّفاته مصدراً إلهامياً للفكر المعاصر.
■ صديق يخطر في بالك أو كتاب تعود إليه دائماً؟
- والدتي، رحمها الله. كلما تأمّلت المسار الذي قطعته متلمّساً، وباحثاً، ومحدّداً ذاتي، والأشياء التي من حولي، تذكّرت هذه المرأة الكريمة التي هي أمّي، ورغم كلّ ما جرى لها في الحياة، ظلّت، بصبر لا يفرغ، تحرص على أن تصل السفينة برّ الأمان. أمّا الكتاب الذي أعود إليه باستمرار، فهو "الأيام" لطه حسين؛ كتاب ينزّل هذا الأديب منزلةً كبيرة في السرد العربي الحديث. يعلّمنا طه حسين أن الحياة لا تعرف المستحيل، وأنّ الإنسان لا ينبغي أن يفقد الأمل، فرغم الصعوبات والإكراهات والعوائق التي يتولّد معها الشعور بأننا نُدفع إلى قلب الظلمة وهوّة اليأس، فإنّ هناك دائماً انزياحاً نحو انفراجة، بحسب مارتن هايدغر، وإمكانيةً لأن يَخبر الإنسان نفسَه، ويمضي حرّاً.
■ ماذا تقرأ الآن؟
- "كيف نكتب التاريخ" لبول فاين، بترجمة سعود المولى ويوسف عاصي (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، سلسلة "ترجمان"، 2021)؛ كتاب قيّم، يندرج في سلسلة من الأعمال والجهود التي ترمي إلى تحديد مفهوم التاريخ، والفاعل التاريخي بوصفه حاكياً للحقيقة. يقدّم هذا الكتاب خدمة كبيرة لنقّاد الأدب الذين يُعنون بالتفكير في الرواية التاريخية بشكل خاص، وفي العلاقة بين الأدب والتاريخ بشكل عام.
■ ماذا تسمع الآن وهل تقترح علينا تجربة غنائية أو موسيقية يمكننا أن نشاركك سماعها؟
- أحبّ أمّ كلثوم ومحمد عبد الوهاب، وأيضاً مارسيل خليفة ونصير شمّة. وأقترح أن نستمع سوياً إلى مارسيل خليفة في "أحنّ إلى خبز أُمّي". تذكّرني هذه الأغنية بسنوات التعلُّم في الجامعة، وبأمكنة خاصّة تَحتضنُ علاماتٍ أهرع إليها باستمرار عبر التذكّر، لأنّها تمدّني بالقوة والصمود.
بطاقة
كاتب وناقد مغربي. أستاذ التعليم العالي بكلية اللغة العربية في جامعة "القاضي عياض" بمراكش. يحمل دكتوراه في الأدب الحديث (2006) من "جامعة محمد الخامس" بالرباط، وعلى دبلوم الدراسات العليا من كلّية الآداب في الرباط (1999). أستاذ زائر في كلّية الآداب بالرباط، وبـ"جامعة ابن طفيل" بالقنيطرة، وبـ"المدرسة العليا للأساتذة" في الرباط. عضو مشارك في تأسيس وتحرير مجلّة "البلاغة والنقد الأدبي". يهتم بالسرديات ونظرية الأدب والنقد الثقافي. من مؤلّفاته: "الأدب موضوعاً للدراسات الثقافية" (2007)، "الرواية العربية وأسئلة ما بعد الاستعمار" (2012)، "سرديات الأمة، تخييل التاريخ وثقافة الذاكرة في الرواية المغربية المعاصرة" (2017)، "الكتابة النقدية عند محمد برادة: المرجعية والخطاب" (2020).