يتناول الشاعر والباحث السوري وفيق سليطين بالنقد والتحليل، في كتابهِ "في نقد الانغلاق الخصوصي"، عدداً من الأعمال التي عُنيت بفكر الخصوصية، لا سيما تلك التي تستخدم الآخر لتأكيد الأنا، أو لتنفيها. كذلك في الكتاب الصادر حديثاً عن "دار فواصل" نقدٌ لشتّى دعوات القطيعة مع الماضي، وبالمثل لدعوات السُّبات فيهِ. ويأتي الكتاب في أزمنة تَشهدُ تنامي خطاب التشدّد وتناحر الهويات المُغلقة على ذاتها.
يقعُ الكتاب بأقسامهِ الثمانية على ثلاث أفكار جوهرية، تتوزّعُ بينَ فصلٍ وآخر، أوّلها العلاقة التي تحكم الشرق مع الغرب وذلك عبر عودةِ سليطين إلى فرانسيس مرّاش وإدوارد سعيد، وثانيها تفسير مآل الربيع العربي، متّخذاً من نقد فكر كلّ من الأكاديمي برهان غليون والشاعر أدونيس مدخلاً لتفسير نكوصِ الآمال الكبرى، ثمّ في النهاية يتحدّث في نظرية الخصوصية، ويحدّد بالضبط أين يصبحُ النداء بفكر الخصوصية نداءً سامّاً. في ما يخصُ الجانب الذي يعالجُ فيهِ خطاب الخصوصية، لا نظريتها، فإنّ المؤلِّف يحتكم إلى علاقتين؛ العلاقة مع الآخر، وتمثّلات الأنا التي تُظهر ردّةً على ما قاستهُ الثقافة العربية، من جرّاء الاستبداد السياسي والديني الذي وسم لعهود طويلة واقع هذهِ الثقافة، بذلك يحلّل سليطين أشكالاً عديدة من السلطات، لربما أكثرها إثراءً لموضوعهِ هي سلطة النّص.
اختُزل الموقف من الغرب في اتّباعه أو الانقطاع عنه
يَعتبر سليطين أنّ الموقف من الغرب اختُزل في اتجاهين؛ إمّا اتّباعاً للغرب أو انقطاعاً عنه. الأمر الذي غَيّب الموقف النقدي بين قطبين متباعدين، أحدهما إيجابي والآخر سلبي. ويعود في مواقع عديدة من كتابهِ إلى نقد الثنائيات الحادّة، لا في العلاقة مع الغرب وحسب، وإنّما بين مكونات الثقافة الواحدة.
وفي ما يخصّ العلاقة مع الغرب فإنّه يذكّرنا بثنائيات فرانسيس مرّاش (1836 - 1873) الذي رأى الذات "على هدي مصباح الآخر"، بذلك اقترن الجهل والتخلّف والاستبداد بالشرق فيما اقترن العلم والتنوير والتمدّن بالغرب. اعتُبر الغرب في الخطاب النهضوي العربي هو "المثال"، وكان التنوير بالنسبة إلى عددٍ من النهضويين إحلالاً للغرب مكان الشرق. الأمر المتعذّر بصورةٍ عملية لأنّه قولٌ يتجاوز البنى الاستعمارية التي تعيقُ تقدّم المجتمع وتلألؤهُ بقيم التنوير. لكن المرّاش يعود ويميّز بين الغرب الاستعماري والغرب الأنواري، وإذ يعرّي الوجه الاستعماري، الذي يقاسم العرب، بالتوسّع والنهب، المسؤولية عن التخلف، فإنّه يدعو إلى الاقتداء بالوجه العلمي الذي للغرب.
وعبر هذا الفصل لوجهي الغرب، فإنّ مرّاش يكشف نزعة التمركز والإقصاء التي للغرب، ويعيد القطبين إلى شروطهما التاريخية، لا إلى طبيعة أبدية؛ لشرقٍ يستمرئ العبودية وغرب يصبو إلى الحرية. على الضوء نفسهِ؛ يقرأ سليطين فكر إدوارد سعيد الذي ردّ للغرب بعضاً من رؤيتهِ التي ألقاها على الشرق في مقولات مثلِ الإرهاب والأصولية الإسلامية، وقد رأى سعيد أنّ "التنميط السردي" الذي قرأ الغربُ من خلاله الشرق هو تسويغٌ للعدوان عليهِ مثل حرب العراق، وذريعةٌ لاستمرار البني الاستعمارية. لكن لا يفوت سليطين التأكيد على ضرورة البناء الذاتي في وجهِ من يسوّغ، من خلال نظرية المؤامرة، آليات الإفساد المحلي داخل البلدان.
ينتقد الثنائيات الحادّة بين مكوّنات الثقافة الواحدة
يستندُ سليطين في قراءتهِ للأنا إلى محددّات الهوية الثقافية، بدءاً باستخدامات النص، وتفسير ظواهر التشدّد، كما أنّه يُقاطعُ مقولاتِ عددٍ من المفكرين والباحثين من أمثال سمير أمين ونصر حامد أبي زيد وعلي حرب، ليتوصّل إلى استنتاج مفادهُ أنّ سلطة النّص السياسية والاجتماعية تجيء من الجماعة التي تتبنّى النّص، وذلك عن طريق اقتطاعهِ من سياقاتهِ التاريخية، ليتمادَى النّص على التاريخ برمّتهِ، ويصلح ثابتاً لكلّ الأزمان، حالَ النّص الديني في تأويل جماعاتٍ بعينها على أساس رغباتها. بذلك تزوي السلطة المعرفية للنّص، أمام سلطتهِ السياسية الأيديولوجية، وعوضاً عن الانفتاح والتطور يسودُ الانغلاق. ومن خلال الاستخدام الوظيفي للنصوص تسبغُ جماعةٌ على ما هو ديني، سِماتِ ما هو دنيوي، ويصبحُ التقدّم ــ بعدما صار النص الديني مرجعيّة لشؤون الحياة التي لا تتوقف عن التطوُّر والتعقيد ــ عودةً إلى الماضي. كذلك ديدن الأحزاب الشموليّة التي يصوّرها سليطين على أنّها "أديان بديلة"؛ عندما يصبح كلام "الزعيم" جزءاً من المُقدّس النظري.
يمكن انطلاقاً من إحكام جماعاتٍ تحتكم إلى لحظة ثابتة في الماضي، فهم المَدخل الذي يعتمدهُ سليطين في نقد فكر كلّ من برهان غليون وأدونيس في مسائل الهوية، وقراءتهما لنكوص الربيع العربي، إذ ينطلق غليون في أعمالهِ على قاعدة الاعتصام بالذاتية؛ يقصر الحداثة والعلمانية على الأقلية فيما يقصر الأصالة والعقيدة على الأغلبية؛ بالتالي كانت الثورة ضد "الدولة الاستعبادية" عودة إلى "مؤسّسة الدين". يوضّح سليطين أنّ هذه الرؤية تفتقد إلى تفكيك البنى السلطوية، والصراع الذي توجّب خوضهُ ضد السلطة التي تستولي على المفاهيم، وتوّلدها، كان سعياً إلى "الاعتصام بالأصل" والاكتفاء بهِ.
كذلك ينطلق أدونيس في تفسيره للربيع العربي من عقدة الانشقاق التي تتّصف بها الذات العربية في ماهيّتها، وهي رغبة بالانشقاق عن الحُكم لا ترمي إلى إحداث تغيير في المجتمع الذي يشكّل الدين، بحسب أدونيس، جوهرهُ الثابت المُقدّس. يعود أدونيس إلى "أصل تكويني" ثابت في الذات العربية، ويقفزُ عن محدّدات الواقع المتغيرة، ويفسرُ الثورة بـ"الهيام"، وبذلك يفصل السلطة عن المجتمع فصلاً يكاد يكون تامّاً، ويتجاهلُ التفاعل الدائم بينهما.
يتلخّص جهد سليطين في مجمل نقدهِ لفكر الخصوصية في محاولة دفع الخصوصية إلى حيز الإسهام الحضاري والإنساني، فالخصوصيات بما تتّضمنهُ من تمايزات قومية وثقافية، ينبغي أن تدخل في نطاقٍ أشمل وأكثر عموميةً. ويمكن لما يميّز ثقافةً عن أخرى، أُن يصيرَ مجالاً للتفاعل والتغيّر والنمو والإضافة، بدلاً من الانغلاق والثبات ومعاداة الآخر، أو تقييد الذات في صورة ثابتة تبدو خارج الزمن.