وديع البستاني في ذكرى رحيله: نصوص مؤسِّسة ضدّ استعمار فلسطين

08 فبراير 2024
وديع البستاني (1886 - 1954)
+ الخط -

شهِد عقْد الثلاثينيات تحوّلاً مهمّاً في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية تبلور في اتجاهين؛ الأوّل تمثّل في تصاعد الاحتجاجات الجماهيرية ضدّ سلطات الاستعمار البريطانية، خصوصاً بعد اعتداءات يهود على حائط البُراق بالحرم القدسي في منتصف آب/ أغسطس 1929، لتقود الانتفاضات الشعبية المتتالية إلى الثورة الكبرى بعد استشهاد عزّ الدين القسام عام 1935.

والاتجاه الثاني يتّصل بتطوّر الوعي السياسي بطبيعة تلك المرحلة الحرجة، وهو ما عكسته العديد من القراءات المعمّقة للواقع وجملة من التصوّرات حول النضال الفلسطيني لدى عدد من المفكّرين والسياسيّين، دون إغفال مؤلّفات ظهرت في فترة أبكر ونبّهت إلى مخاطر الصهيونية، ومنها "الصهيونية: ملخّص تاريخها، غايتها وامتدادها حتى سنة 1905" (1911) لنجيب نصّار، و"السيونيزم أي المسألة الصهيونية.. أوّل دراسة علمية بالعربية عن الصهيونية" (1913) لمحمد روحي الخالدي.

واحدٌ من النصوص المؤسّسة المنشورة في سنوات الثلاثينيات، كان للشاعر والمترجم والمناضل اللبناني وديع البستاني (1986 - 1954)، الذي انخرط في العمل السياسي وأسهم في تشكيل العديد من الجمعيات والأُطر الفلسطينية آنذاك، ولم يغادر حيفا التي كانت مسكنه ووطنه حتى احتلّت عصابات الهاغاناه بيته سنة 1948، وفرضت عليه الإقامة الجبرية حتى عام 1953، فاضطر لمغادرته المدينة والعودة إلى لبنان.

بالإضافة إلى ترجماته الشعرية الكثيرة عن الأدب الهندي ومنها مختارات لطاغور وكذلك "المهابهاراتا: ملحمة الهند الكبرى"، والأدب الإنكليزي، ولرباعيات عمر الخيّام أيضاً، ترَك ديوانه "الفلسطينيات" (1946) الذي يقول في واحدة من قصائده: "يا فلسطينُ بلادَ الله يا/ كوكباً شَرَف هذا الكوكبا"، ويخاطب فلسطين في قصيدة ثانية: "وجب الحبّ، والقلب وَجَبا/ يا بلادي وقَضى ما وَجبا/ أين ليلى؟! فأنا مجنونها/ وشبابي في هواها ذَهبا". كما ترجم كتاب "خمسون عاماً في فلسطين" (1948) للمبشِرة الإنكليزية فرنسيس إملي نيوتن، التي عُرفت بانحيازها للفلسطينيين وتوثيقها أعمال العنف التي ارتكبها المستعمر البريطاني والعصابات اليهودية بحقّهم.

بنى مرافعته في نقاط تُثبت مخالفة بريطانيا للمواثيق الدولية

لكن كتابه الأساسي الذي وضَع فيه خلاصة فكره ورأيه كان "الانتداب الفلسطيني باطل ومحال" الصادر عام 1936، وفيه مرافعة قانونية وسياسية جذرية ضدّ استعمار بريطانيا لأرض فلسطين، بالعودة إلى جميع الاتفاقيات والتفاهمات الدولية التي فنّد من خلالها بطلان الانتداب، وحق اليهود في إقامة وطن لهم بحسب وعد بلفور، وكذلك التناقضات التي تضمّنتها التزامات بريطانيا الانتدابية والفشل في تحقيقها بسبب انحيازها التامّ للصهيونية.

يستند البستاني، الذي مرّت قبل أيام ذكرى رحيله السبعون، إلى "معاهدة لوزان" التي وقّعها الأتراك مع القوى الأوروبية في 24 تموز/ يوليو 1923، إثر هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى، مؤكّداً في مفتتح المبحث الأول من الكتاب بطلان الانتداب بحكم المادّة 16 من المعاهدة، وحكم المادّة 20 والفقرة الرابعة من المادّة 22 من عهد "جامعة الأمم" (عصبة الأمم).

ويرى أنّ المادة 16 من "معاهدة لوزان": "أفاضت على شعب فلسطين حقّ الاعتراف به 'أمّة مستقلّة'"، وفقاً للفقرة الرابعة من المادة 22 من عهد عصبة الأمم، لافتاً إلى مسألة بالغة الأهمية إلى أنه عند التوقيع على المعاهدة "كان الانتداب البريطاني غير نافذِ النفاذ القانوني، وما وقع نفاذه هذا إلّا في 29 أيلول/ سبتمبر 1923"؛ ما يعني بوضوح ودون مواربةٍ باعتماد "لوزان" مرجعيةً سابقة لكلّ الاتفاقيات الدولية اللاحقة بخصوص فلسطين.

ضمّ ديوانه قصائد تمجّد فلسطين التي عاش فيها أربعة عقود

ويبني البستاني مرافعته في نقاط مرقّمة، يُثبت في كلّ نقطة منها مخالفة السياسات البريطانية للمواثيق الدولية مدّعماً ادّعاءه بالنصوص القانونية، ومنها "معاهدة سيفر"، ونصوص الانتداب على سوريّة والعراق وفلسطين والأردن، وإقرارات المسؤولين البريطانيين أنفسهم، في مراسلات السير مكماهون مع الشريف حسين عام 1916، على سبيل المثال.

كما يدلّل على مناقضة "وعد بلفور" مع المادة 20 من عهد "عصبة الأمم"، التي تنصّ بصريح العبارة على إلغاء الانضمام للعصبة أي التزام أو تفاهم سبق يتعارض مع العهد، وهو ما ينطبق على بلفور نفسه الذي يعطي لليهود حقوقاً سياسية في فلسطين ويعترف بصلةٍ تاريخية لهم فيها، رغم أنهم لا يعدّون شعباً وفق "معاهدة لوزان" التي وُضعت لتقرير مصير الشعوب التي كانت خاضعة للدولة العثمانية؛ العراقية والسورية واللبنانية والفلسطينية والأردنية.

في عشرة مباحث، يورد البستاني كافة البراهين والإثباتات على بطلان ما قامت به بريطانيا التي بدأ احتلالها لفلسطين في كانون الأول/ ديسمبر عام 1917، لكنها لم تتمكّن من تثبيت سلطة انتدابها حتى أيلول/ سبتمبر سنة 1923؛ أي بعد توقيعها "معاهدة لوزان" التي أقرّت حقّ شعوب المنطقة بتقرير مصيرها، وبالتالي فإن جميع الالتزامات والإجراءات التي قام بها المستعمِر البريطاني على الأرض خلال الأعوام الستّة، وأسّست لاحتلال فلسطين عام 1948، تعتبر باطلةً.

انشغل البستاني طوال أكثر من أربعة عقود قضاها في فلسطين، بالكتابة والعمل السياسي بناءً على فهمه للقانون الدولي الذي يدحض ادّعاء بريطانيا بـ"إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي، وإدارة فلسطين وفقاً لمصالح السكان" كما تشير التزاماتها الانتدابية؛ الذي يمثّل تناقضاً صارخاً أخفى تلاعبها وسعيها الدؤوب لتأسيس كيان صهيونيّ في فلسطين.

في وثيقة ينشرها موقع "ذاكرة فلسطين"، الذي أطلقه "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" مؤخّراً، خاطب البستاني سكرتير "اللجنة العربية العليا" في الرابع من تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1936، في رسالة أبدى خلالها استعداده لتقديم محاضرات من شأنها المساهمة في عملٍ سياسي مخطّط يهدف إلى إبطال الانتداب البريطاني أو تعديل صيغته بمنح حقوق لليهود. شكّلت تلك المحاولة انشغاله السياسي طوال حياته، وجاءت تعبيراً عن إيمانه بإمكانية تغيير الواقع قبل خروج البريطانيين من فلسطين وتثبيت سياساتهم الجائرة؛ طموح ظلّ أسير الحبر والورق!

المساهمون