20 تموز/ يوليو 2021. صباح مشمس في الرباط. رحلَ هنري ديلوي. قرأتُ الخبر الغريب والمفاجئ على حساب فيسبوك صديقي الكاتب والناشر لوران كوفيه، كأنّني أحلم. كنتُ أعتقد أنَّ الشاعر الشيوعي الأخير لا يموت. تذكَّرتُ قامته القصيرة ونظرته الحادّة ووجهه البشوش ومشيته السريعة، رغم العكّاز، في مرسيليا قبل بضع سنوات.
حدَّق فيَّ طويلاً قبل أن يبتسم لمّا سلّمتُ عليه. لم يتغيّر كثيراً رغم مرور السنين. شاعر بِنِعال من ريح فتح العالم شاسعاً بين دفّتَي مجلّته الشعرية الشهيرة "أكسيون بويتيك" (1958 - 2012). تعرّفتُ على المجلّة في تسعينيات القرن الماضي قبل أن أتعرّف على الشاعر في باريس. كنتُ أزوره كلّما ذهبتُ لقضاء الصيف عند صديقي الشاعر عبد الإله الصالحي. وكان يسألني دائماً عن المغرب العربي والعالم العربي، هو الذي جال العالم بالطول والعرض. كان يطلب من مُساعِدته نيللي بيكو، بعد كلّ زيارة، أن تمنحني كلَّ جديد عندهم من المجلّة إلى منشورات "بيينال فال دو مارن"، مهرجان الشعر العالمي الذي أطلقه في التسعينيات. ظلَّت المجلّة تصلني في المغرب إلى أن توقّفَت نهائياً وهي في قمّة مجدها.
مختبر شعري مفتوح على العالم
وُلد هنري ديلوي (1931 - 2021) ونشأ في وسط شعبي بمرسيليا. كان أبوه الإسباني الشيوعي يشتغل صبّاغاً، وكانت أمُّه الإيطالية حلّاقة. بعد دراسة متقطّعة، صار معلّماً ومناضلاً شيوعياً في ريعان الشباب. التحق بمجلة "أكسيون بويتيك" بعد أن أسّسها الشاعران الشيوعيان جان مارليو وجيرالد نوفو سنة 1948. كانت تجمعه بهما الأصول الشعبية والهجرة والنضال الشيوعي. لعبت مرسيليا دوراً أساسياً في إشعاع المجلّة. كانت مدينة كوسموبوليتية تحارب دون هوادة غرور باريس ومركزيتها.
لم تكن "أكسيون بويتيك" المجلّة الأدبية الأولى في تاريخ مارسيليا الأدبي، بل كانت قبلها بكثير مجلّة "دفاتر الجنوب" الشهيرة (1925 - 1966) برئاسة الشاعر جان تورتيل الذي نشر القصائد الأولى لهنري ديلوي وأصدقائه. انطلقت المجلّة تحت قيادة ديلوي مثل قطار سريع. كانت مجلّة غريبة منفتحة على كل التيارات الشعرية والفنية ومستقلّة مادياً وتحريرياً عن الحزب الشيوعي، عكس "الآداب الفرنسية" التي كان يسهر عليها الشاعر لويس أراغون في باريس.
مناضل ورحّالة شعري لم يترك مكاناً إلّا وحفر فيه
كان الخلاف نظرياً بين جماعة باريس وشباب مارسيليا الذين كانوا يرفضون العودة إلى الشكل التقليدي في الشعر كما كان يدافع عنه أراغون. كما اهتمّت المجلّة "الشيوعية" الجديدة بالترجمة لتقديم شعريات العالم إلى القارئ المحلّي. وبدأ ديلوي بالشعر الهولندي، إذ تعلّم الهولندية عندما استقرّ في هولندا وهو لم يتجاوز العشرين وتزوّج فيها آنّا ماريا سويسبرغن. ترجم لكبار الشعراء الهولنديّين؛ أمثال لوسيير وبيرت شيربيرت، كما تعرّف على أعضاء "جماعة كوبرا" الشهيرة ورافقهم في مغامرتهم الفنية.
استطاع هنري ديلوي أن يجعل من " أكسيون بويتيك" مختبراً شعرياً مفتوحاً على العالم، لعبت فيه الترجمة وحوار الأشكال الفنية ودينامية الجديد وتشجيع الأجيال الصاعدة دوراً حيوياً في استمرار التجربة وتجاوزها لكلّ الصعوبات الأيديولوجية والنظرية والسياسية، رغم الانتماء الشيوعي لأغلب أعضائها. كما أنّ الصراع في المجلّة بين الجناح النيو- سوريالي والجناح التقليدي لم يصل إلى حدّ القطيعة.
ويعود السرُّ في ذلك إلى تجديد طاقم المجلّة ومرونة ربّانها، فهناك من تركها لاعتبارات فكرية؛ كشارل دوبزانسكي، ومن التحق بها ليكتشف ثراء التجربة الشعرية؛ مثل جاك روبو، وفرانك فوناي، وبول لوي روسي. وهكذا استطاعت المجلّة في الستينيات أن تُجدّد نفسها وتمرّ بأقلّ الأضرار الممكنة من عواصف البنيوية (مجلّة "تيل كيل"، العدو الأدبي والنظري، ومجلّة "شانج" بقيادة جان بيير فاي المنسحب من "تيل كيل" والحليف النظري لـ"أكسيون بويتيك") لتصل إلى التسعينيات بأبرز الأصوات الشعرية الفرنسية والعالمية.
عالَم عربي بلا حُجب
كانت علاقة هنري ديلوي بالعالم العربي علاقة مبدئية. ويأتي هذا الموقف من إيمان الشاعر بعدالة الحركات التحرُّرية والشعوب المستعمَرة سابقاً. لما التقيته في باريس في أواخر التسعينيات، كانت رغبته لا تخفت في التعرُّف على مستجدّات العالم العربي. عالم يراه الشاعر دون حجاب استشراقي؛ فهو ينتمي إلى جيل دافع عن استقلال الجزائر وخرج في مظاهرات صاخبة في مرسيليا ضد همجية الاستعمار الفرنسي. آنذاك، لم يكن قد زار المغرب العربي.
فلمّا دعوتُه سنة 2005 إلى "مهرجان الشعر المتوسّطي" في الرباط الذي كنت أديرُه لفائدة "اتحاد كتّاب المغرب"، كان سعيداً جدّاً. لكن قبل أن يستقلّ الطائرة ويحطّ في المغرب، كان لهنري ديلوي وشعراء مجلّة "أكسيون بويتيك" في ستّينيات القرن الماضي تاريخ نضالي مع الجزائر المستعمَرة؛ حيث أصدروا عدداً خاصّاً عن حرب الجزائر سنة 1960.
جاء ديلوي إلى الرباط وشارك في القراءات الشعرية والندوات والورشات بحماس كبير. كان يتعرّف على الشعر العربي من خلال الشعراء المشاركين في المهرجان من تونس والجزائر ومصر ولبنان... وفي سبقه الدائم، كان قد أصدر في سنة 2004 ملفّاً عن الشعر الفلسطيني في العدد 178 من "أكسيون بويتيك" قدّم فيه ستّةَ شعراء من فلسطين (محمود درويش، وعثمان حسين، ونجوان درويش، ووليد الشيخ، ودنيا الأمل إسماعيل، وسمية السوسي) بعد أن زارها ووقف على بشاعة الاحتلال الإسرائيلي.
كتب ديلوي في مقدّمة الملف الفلسطيني للمجلّة حواره مع الشعراء الشباب الفلسطينيين: "بين المستوطنات الإسرائيلية التي تحتلّ أحسن الأراضي وطوابير المدرّعات، كيف ننتزع فضاء للكتابة؟ كيف سنجد كتابة تهتم بنفسها أيضاً؟ دار حوارنا الطويل حول الشعر العالمي. نتشارك بعض "الإشكاليات النظرية" (نستعمل المصطلحات نفسها)، وليس فقط سؤال "كيف نكتب بعد أوشفيتز" الذي يصير هنا: "كيف نكتب بعد صبرا وشاتيلا؟". (ص 21، العدد 178، سنة 2004).
كان هنري ديلوي مشرعا دائماً مجلّته للأصوات الجديدة من الصين إلى البرازيل مروراً بفيتنام والولايات المتّحدة الأميركية وتشيكوسلوفاكيا. أذكر أنّني لمّا زرته في باريس سنة 2004، رحّب بي بحرارة وأدخلني إلى مكتبه قائلاً: "أريدك أن تساعدني في ترجمة شاعر فلسطيني من الجيل الجديد". كانت هذه أوّل مرّة أتعرّف فيها على شاعر فلسطيني اسمه نجوان درويش. كانت اللحظة غريبة: أسافر إلى باريس لأكتشف شاعراً من أبناء جلدتي في مجلّة شعرية شهيرة! أكّدت لي لاحقاً مثل هذه المواقف عبقرية الرجل وقدرته على الخروج من دوغمائية السياسي إلى شساعة العالم.
التقى ديلوي في الرباط بالإخوة الشعراء الجزائريّين الذين وجّهوا له دعوة لحضور مهرجان في السنة الموالية في الجزائر. قال لي بابتسامته الوديعة ونحن نتجوّل في أزقّة المدينة القديمة لمّا سألته عن سبب القطيعة الثقافية والفكرية بين المغرب العربي وفرنسا: "يا جلال، الحقيقة أنّنا لم نراجع بعد تاريخ استعمارنا في المغرب العربي ولا سيما الجزائر. والمسألة ستتطلّب وقتاً طويلاً مع الأسف".
لم تخفت رغبته في التعرُّف على مستجدّات العالم العربي
كنت أراه متحمّساً لفكرة أو مشروع شعري أو ملفّ خاص وهو يناقش الشعراء والنقّاد والشباب الحاضرين في فعاليات المهرجان. سمح لنا لقاء الرباط بالتعرّف على شاعر استثنائي عمل على فتح الحدود بين الجغرافيات الشعرية والدفاع عن الأفكار الجديدة وتقديم الأجيال الجديدة، كما سمح له بالتعرّف على الأدب المغربي الذي وجد شعره الفرانكفوني المعاصر ضعيفاً لا يرقى إلى شعر الروّاد كمحمد خير الدين والمصطفى النيسابوري وعبد اللطيف اللعبي.
عاد الشاعر الرحّالة إلى باريس سعيدا بهذا الانفتاح النقدي على الذات. وربما أذاب هذا التماس الأوّل مع تاريخ شخصي معقّد جليد "الكونية الفرنسية" والدوغمائية الشيوعية بتقريبه قليلاً من المغرب العربي والعالم العربي، هو الرحّالة الذي لم يترك مكاناً إلّا وحفر وزرع فيه.
تابع هنري ديلوي طريق الشعر الملتوي وكان الشعر العربي يظهر دورياً ليأخذ مكانه في هذه المجلّة الأسطورية والثورية دون دوغمائية. نشر في العدد 204 سنة 2011 أصواتاً من تونس ومصر في خضمّ الثورات العربية أو ما سُمّي "الربيع العربي"، ومن سورية في العدد 205 من السنة نفسها... كانت الأصوات العربية تأخذ بهدوء مكانها في هذه الجغرافية العالمية المتحركة على الدوام.
لن أنسى أبداً بريق عينيه وابتسامته الشهيرة وهو يهديني مختارات من شعره بالعربية صدرت في الجزائر كأنه يقول للمغرب العربي: "هو الشعر مرّة أُخرى يضع اللبنة الأولى لمصالحة فرنسا مع تاريخها الدموي". رحمك الله عزيزي هنري ديلوي أينما كنت.
* شاعر من المغرب