هيرمان هسه.. في أثَر رجُل بلغ مناله

17 اغسطس 2022
تمثال هيرمان هسه في مدينة كالف الألمانية (Getty)
+ الخط -

بعد عدّة أشهر على التحاقه بالمدرسة اللاهوتية في "دير ماولبرن" هرَب هيرمان هسه باتجاه الحقول ولم تُفلح محاولات والديه المتديّنَين في إعادته إلى الدير، إذ اجتاحته أعراض اكتئاب شديد وحاول الانتحار، ثم دخل مصحّاً للأمراض العقلية قبل أن ينتقل إلى مدرسة غير دينية، لكنه لم يجتز فيها إلّا الامتحان الأول، ليعلن تمرُّده على عائلته والمدرسة قبل أن يبلغ السادسة عشرة.

لم يستقرّ الروائي الألماني (1877 - 1962) ـ الذي مرّت ستّون عاماً على رحيله في التاسع من الشهر الجاري ـ على حال في سعيه لامتهان وظيفة ما، إذ عمل في مكتبة، وتركها ليتدرّب في ورشة ميكانيك، ثم بدأ عمله في أرشيف إحدى المكتبات في مدينة توبنغن، وهناك انكبّ على قراءة كتب في اللاهوت والأدب والفلسفة، لمؤلّفين مثل غوته وليسينغ وشيلر ونيتشه، وكذلك في الميثولوجيا الإغريقية؛ كما نشر في هذه المرحلة قصيدته الأولى "مادونا" (1896).

احتجّ هسه باكراً على قيود النظام التعليمي، وانتقده بحِدّة في ثاني رواياته، التي صدرت سنة 1906 بعنوان "تحت العجلة"، بعد روايته الأولى "بيتر كامينتزيد" التي عبّرت عن رحلة بحث بطلها المتمرّد أيضاً، والذي يفشل في أن يصبح كاتباً عن الهوية، في ظلّ اضطراب يعيشه المرء في العصر الحديث رغم التراكم الحضاري والثقافي، وهي ثيمة أساسية ركّز عليها في عدد من أعماله اللاحقة.

انتقد "الجنون القومي" الألماني واستلاب الرأسمالية للبشر

وما إن اندلعت الحرب العالمية الأولى، حيث كُلّف بالخدمة في رعاية الأَسرى ضمن صفوف الجيش الإمبراطوري الألماني، حتى تكشّفت أفكاره المعادية لتلك الحماسة الوطنية القائمة على العُنصرية وخطاب الكراهية ضدّ كلّ ما هو غير ألماني، كما تبيّنُها مقالاته التي ناشد فيها الكتّاب الأوروبيين ألّا يسقطوا في "الجنون القومي". تزامن ذلك مع أزمات عائلية، حيث انفصل عن زوجته بعد قصّة حبّ عاصفة، كما أُصيب ابنه بمرض عضال تسبّب بوفاته.

وجَد هسه ضالّته في المعتقدات الروحانية الهندية التي استمدّ منها أجواء أكثر من رواية، حيث الصراع بين القيَم والضوابط التي يفرضها المجتمع البرجوازي وبين التمرّد الفطري الغريزي داخل الإنسان؛ ليقودَه القلق إلى البحث عن السعادة أو الخلاص أو عن معنى للوجود، وهي أفكار اتّكأ عليها جزءٌ من الحركات الاحتجاجية منذ أيار/ مايو 1968، ضدّ زيف المؤسّسة الغربية وقيمها، من استلاب الرأسمالية للفرد إلى العمل على تدجين الصغار من خلال المنظومة التعليمية، وهي ظاهرة لطالما هجاها صاحب "ذئب البوادي".

"إنّ ما أعرفه عن نفسي، عن سدهارتا، أقلُّ ممَّا أعرفه عن أيِّ شيءٍ آخر في العالم، وليس بوسعي أن أتعرَّف على نفسي إلّا من خلال نفسي"؛ بهذه الكلمات يخاطب بطل روايته "سدهارتا" نفسَه قبل أن ينطلق في رحلة البحث عن ذاته، متحرّراً من أيّة اعتبارات أو آراء حدّدها أيّ نظام بشري؛ رحلة مليئة بمحطّات متناقضة، حيث يختبر ملذّات الجسد ثم ينفضّ عنه نحو بناء ثروة لا حدود لها، مروراً بمحاولته الانتحار غرقاً، ووصولاً إلى التأمّل والزهد وترويض النفس.

في نهاية العمل ــ الذي يعني عنوانه بالسنسكريتية "الرجل الذي بلغ مناله"، وهو الاسم الذي يحمله بوذا ــ يخلُص البطل إلى أن "الحكمة لا تقبل التوصيل، والحكمة التي يحاول الرجل العظيم إيصالها إلى الآخرين تبدو دائماً حمقاء". يلفت هسه في هذه الرواية إلى فقدان المعنى في الحضارة الغربية، ما ساقها إلى حرب كونية تسبّبت بخرابٍ مادّي ومعنوي؛ تساؤلٌ ما يزال حاضراً بصيَغ مختلفة بعد مئة عام على صدور هذا العمل.

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون