تقف هذه الزاوية مع شاعر عربي في علاقته مع قارئه وخصوصيات صنعته، لا سيما واقع نشر الشعر العربي المعاصر ومقروئيته. "عض ما أتمنّاه للشعر العربي، وللشاعر العربي، هو أن يكون ثمّة مشروع لكلّ شاعر يظهر في نتاجه الشعريّ"، يقول الشاعر الأردني في لقائه مع "العربي الجديد".
■ من هو قارئك؟ وهل تعتبر نفسك شاعراً مقروءاً؟
- في البداية، لا بدّ من تعريف "مَن هو القارئ؟"، و"مَن هو قارئي أنا تحديدًا؟"، أهو الذي قرأ تجربتي الشعريّة كاملة، أو في محطّات منها، وعرفَني من خلالها، ويمكنه تقويم إيجابيّاتها وسلبيّاتها؟ أم هو القارئ العابر لهذه التجربة "مرور الكِرام"، حتّى إنه لم يعرف الكثير منها، ولا يستطيع الحديث عنها ولو "بكلمتين"؟
إذا كان السؤال يتعلّق بالبند الأوّل، فإنّني أستطيع القولَ إنّ "قرّائي" هؤلاء هم قلّة قليلة، وهم غالبًا مجموعة من الأصدقاء القريبين منّي، فهُم من يتابعون تجربتي منذ بداياتي حتّى اليوم، وربّما بعضهم يعرف تفاصيل هذه التجربة وتحوّلاتها. أصدقاء أستطيع أن أثقَ بآرائهم حين أطلب منهم الرّأي في قصيدة أو مجموعة شعريّة لي قبل نشرها، فهم من يقدّم لي المَشورة التي تساعدني في تجاوز بعض الهفَوات، وحتّى تغيير بعض الصياغات. وبصراحة شديدة، هذا هو القارئ الذي يعنيني ويعني لي الكثير.
أمّا القُرّاء العابرون الذين تأخذهم المصادفات إلى تجربتي (المتواضعة)، فهؤلاء قد لا أعرفهم تمامًا، وإن كانت سبل التواصل وأدوات الاتّصال الحديثة تجمعني بالكثيرين منهم. ومع مثل هؤلاء القرّاء تبقى العلاقة "عابرة" وسريعة غالبًا، وربّما هي علاقة سطحيّة لا تقدّم سوى التأثير المعنويّ الآنيّ والمباشر، ولا تمتلك العُمق المطلوب بين الكاتب/ الشاعر وقرّائه، ومع ذلك فهي علاقة ضروريّة للطّرفين كما أعتقد أيضًا!
والأهمّ في ذلك كلّه، هو أنّ أيّ شاعر/ كاتب لا يكتب لقارئ محدّد السّمات والملامح، ولكلّ شاعر قارئ "متخَيَّل"، لكنّه حين يكتب قصيدته وينشر ديوانه لا يُفكّر، بل يجب ألّا يفكّر بنمط محدّد من القرّاء. فهو يكتب لنفسه أوّلًا، ثمّ لقرّاء غير معروفين، الأمر الذي يجعل قصيدته مفتوحة على آفاق غير محدودة.
■ كيف هي علاقتك مع الناشر، هل لديك ناشر وهل هو الناشر الذي تحلم به لشعرك؟
- العلاقة مع النشر، ومن ثمّ مع الناشر، علاقة معقّدة وغير محددة بقانون. ولأنّني مقلٌّ في النشر، فالمسألة لا تؤرّقني كثيرًا. لكن في الواقع مررتُ بتجارب شتّى في النشر، وتغيرت العلاقة ما بين ديواني الأوّل "احتفال الشّبابيك بالعاصفة" (نشر ضمن إصدارات رابطة الكتّاب الأردنيين 1983)، وجاء الثاني والثالث والرابع ضمن إصدارات المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر (بين 1996 و2013، بيروت- عمّان)، ثمّ ديواني "سيرة لأبناء الورد" (الأهلية للنشر- عمّان)، حتى ديواني الأخير "يمشي كنهر دونما ضَفاف" (2019، وهو نتاج منحة تفرّغ من وزارة الثقافة). وهكذا كانت تجربتي مع النشر سلسة إلى حدّ كبير، لكنّ سؤالي يبقى عن "جدوى" نشر ديوان الشعر في عالم لا يقرأ؟! كما أنّ عالم النشر اليوم محكوم بحسابات تجاريّة تطغى على كل ما هو ثقافيّ وأدبيّ حتى تبتلعه وتفقده "جدواه".
■ كيف تنظر إلى النشر في المجلات والجرائد والمواقع؟
- في زمن بات مصنوعًا على مقاسات السوشال ميديا، وخصوصًا زمن الفيسبوك ومواقع التواصل الأخرى، وتراجع النشر في الصيغة الورقية، لا بد لكل "مبدع" أن يجد طريقًا في هذا العالَم، لكن الأفضل لهذا المبدع أن يختار كيف وأين ومتى ينشر إبداعه، هنا أو هناك. وبالنسبة لي فإنّني قليل الحضور "إلكترونيًّا"، وأرى النشر في المواقع الإلكترونية يمتلك قدرًا من الإيجابيّات، بصرف النظر عن سلبيّاته المتمثّلة في التخبّط والضياع الذي تشهده هذه المواقع، فهي تحتوي الجيد جنبًا إلى جنب مع الرديء، لهذا لا أعتبر النشر (هنا) معيارًا للجودة أو للرداءة.
■ هل تنشر شعرك على وسائل التواصل الاجتماعي، وكيف ترى تأثير ذلك في كتابتك أو كتابة زملائك ممن ينشرون شعرهم على وسائل التواصل؟
- نعم. أقوم بنشر مقطوعات قصيرة من بعض قصائدي، لكنني لا أرى أيّ تأثير لهذا النشر في تجربتي، فهو نشر "عابر" لا يعوّل عليه، وحضوره غير فاعل، وفي أحسن الأحوال هو حضور خفيف الفاعلية والتفاعل، لذا فإنّني أعود دائمًا إلى مسألة "الجدوى"، حجمها ومستواها، وبناء عليها أقرر إن كنت سأنشر أم لا. أمّا الأصدقاء/ الصديقات ممن ينشرون في هذه المواقع، فقد تجد القليل من الجيّد الذي يؤثر في تجربتك، فيما الغالبية هي كتابات بلا أي هوية أو خصوصية، فهي تمرّ بلا اهتمام.
■ من هو قارئ الشعر العربي اليوم في رأيك؟
- قُرّاء الشعر ليسوا من لون واحد، وربّما كان لكلّ شاعر قرّاؤه، على قلّة القرّاء أصلًا. وأكثر ما تجد قرّاء الشعر، إذا أردنا مستوى رفيعًا من القراءة، هم من الشعراء والمبدعين أساسًا، وذلك عبر وسائل التواصل، أكثر من أي وسيلة للنشر، الأمر الذي يسهّل التواصل بين المبدعين وتجاربهم، ويمنحهم فرصة الاطلاع والمتابعة لتجارب بعضهم البعض. وعدا ذلك فثمة ما يشبه القطيعة بين المبدع/ الشاعر والقارئ، وهذا ما تكشفه أرقام المبيعات من أيّ ديوان شعري، فهي أرقام محزنة ومؤلمة، وتضع الشاعر في خانة اليأس مما يكتب.
لدينا شعر عظيم حقًّا لم يأخذ مكانته التي يستحقّها
■ هل توافق أن الشعر المترجم من اللغات الأخرى هو اليوم أكثر مقروئية من الشعر العربي، ولماذا؟
- ليس الأمر على هذه الدرجة من الدقّة، وإن كنّا نرى شعراءنا ومبدعينا هم الأكثر توجّها للشعر المُترجم، على حساب اهتمامهم بالشعر العربي، بل قل على حساب متابعتهم لتجارب أصدقائهم وأبناء جيلهم من الشعراء. ليس الهدف من هذا القول هو التعميم، بل الحديث عن حضور كبير للشعر العالميّ وتأثيره في تجارب شعرائنا، خصوصًا الأجيال الجديدة التي فقدت تواصلها مع تراثها القديم والجديد. ومن جهتي، لا فرق لديّ بين شعر عربيّ وآخر مترجم حين يكونان في مستوى رفيع.
■ ما هي مزايا الشعر العربي الأساسية وما هي نقاط ضعفه؟
- من الصعب تقديم تصوّر عميق في هذا المجال، فثمة مراحل في شعرنا العربيّ، ولكلّ مرحلة سِماتها، فضلًا عن سِمات كلّ شاعر على انفراد. ففي شِعرنا ما بلغ أقصى مستويات الإبداع، وما حفِل بقضايا الإنسان وهمومه، كلّ في عَصره وزمانه. لكنّ منه الكثير الذي لا يستحق الحفظَ في "ديوان الشعر العربيّ". وثمّة نماذج كثيرة توضع في باب "الشعر العظيم" وهي لا تستحقّ الاحتفاء. بينما لدينا شعر عظيم حقًّا لم يأخذ مكانته التي يستحقّها في هذا "الديوان". والأمر الذي يستحق الالتفات هو اختلاف الذائقات والمعايير التي نحكم بها على هذا الشاعر أو ذاك، بدءًا من امرئ القيس وصعاليك الشعر، وصولًا إلى محمود درويش الذي، بكلّ تفوّقه وإبداعه واختلافه، قال يومًا إنّ الكثير من شعره جدير بالحذف من تجربته. لكنّ زمننا هذا يشهد حضور وسطوع تجارب لا ترقى إلى ما يمكن تسميته بالشعر!
حضور وتأثير كبيران للشعر العالميّ في تجارب شعرائنا
■ شاعر عربي تعتقد أن من المهم استعادته الآن؟
- من بين التجارب الشعرية العربيّة، يبقى درويش هو شاعر العصر بلا مُنازع، لما أنتج من "جديد" في شعرنا، ولما لاقاه من حضور، وما تركه من تأثير لدى شعرائنا. لكنّ ثمة تجارب أخرى تستحقّ الاستحضار والتذكير بمُنجزها، وساحتنا الشعريّة تضجّ بأسماء وتجارب لا أستطيع حصرَها.
■ ما الذي تتمناه للشعر العربي؟
- بعض ما أتمنّاه للشعر العربي، وللشاعر العربي، هو أن يكون ثمّة مشروع لكلّ شاعر يظهر في نتاجه الشعريّ بوصفه مشروعًا، وليس مجرّد نتاج مشرذم ومبعثر، وهو أمر يتطلّب من الشاعر الكثير من الجدّ والجهد، يتطلّب عمقًا ثقافيّا وأدبيًّا وفلسفيًّا وعلى كافّة الأصعدة، وقبل ذلك وبعده التجربة الحياتية الناضجة والمختلفة التي يجب أن يكون لها حضورها في شعره، كي يكون قادرًا على تشكيل "حالة مغايرة" ومتمرّدة على المألوف، حالة لها حضور واسع من القرّاء، وليس على مستوى النخبة وحسب. و.. أتمنّى المزيد من القرّاء والقراءة للشعر الجديد خصوصًا، وللشعر عمومًا!
بطاقة
شاعر وصحافيّ فلسطيني أردني من مواليد عمّان عام 1958، حاصل على بكالوريوس اللغة العربية وآدابها، من "الجامعة الأردنية" سنة 1981. صدرت له عدّة مجموعات شعرية، هي: "احتفال الشبابيك بالعاصفة" (1983)، و"غبار الشخص" (1997)، و"الطفل إذ يمضي" (2006)، و"رأس الشاعر" (2013)، و"سيرة لأبناء الورد" (2017)، و"حديقة بجَناحين" (2018)، "يمشي كنهر دونما ضَفاف" (2019)، إلى جانب مختارات بعنوان "تحوّلات طائر الفينيق" (2019).