لا تستطيع أن تقول أيّة كلمة بينما يضع محدّثك، أو محدّثوك، اسم دان براون ورواياته مقياساً للرواية: هل قرأت "شيفرة دافنشي"؟ وفي الغالب سوف تتردّد في أن تقول لا، وسوف تُتّهم أنك لا تعلم أين وصل فن الرواية، أو أنك مقصّر في معرفة أين وصل هذا الفن. لا تستطيع أن تدفع بجيمس جويس الغامض المعقّد الذي لا يعرف كيف يحْبك رواية مغامرات، إلى السِّجال، ويجب عدم التطرق أيضاً إلى فلوبير، الموضة العتيقة المتعبة، ويمكن التسامح قليلاً ونظرياً مع تولستوي باعتبار أن رواية "الحرب والسِّلم" يمكن أن تكون قد ضمنت لنا لغزاً ما، وبعض التشويق.
ويبدو أن "الرواية" التي تسود اليوم تضع النوع الروائي أمام إحراج كبير، أو تضعه موضع التساؤل: هل يمكن أن تعود الرواية إلى العالم الجوّاني للبشر؟ هل ستعود للتساؤل عن المصير، أو الوجود، أو تعيد طرح الأسئلة عن الحرّية والكرامة والقمع، أم أنها ستنتهي إلى أن تكون محلّاً للتسلية بألغاز ملفّقة ومحبوكة جيّداً؟
والظاهر أننا نعيش سجالاً بين مجموعة من القوى، الأولى هي الروائيون المبدعون القادرون على التأسيس والكتابة بعيداً عن أية تأثيرات جانبية غير تأثيرات عالم الرواية والروائيين، والثانية هي القرّاء الذين يشكّلون قوّة ضغط خارجية باختيارهم نوعاً ما من الكتابة، والإقبال على شرائه والترويج له، والثالثة هي قوى التسويق والتجارة في المؤسّسات الإعلانية الكبرى التي تقرّر النجاح أو الفشل أمام طريقة محدّدة من الكتابة، أو تستفيد وتعمّم النجاح في حالة أي نمط من الكتابة. ويبدو لي أن القوّة الثالثة اليوم هي الأكثر فاعلية، بينما يوضع طرفا المعادلة ــ أي الروائي والقارئ ــ تحت السيطرة.
الإشكاليّ هنا هو خضوع روائيين لمزاج القرّاء الذي يصنعه الترويج والدعاية
من غير الممكن عَمَلياً أن يصل دان براون، أو ماركيز نفسه ــ مع الفارق الهائل بين الاثنين بالطبع، ولكنّي أذكرهما للتمثيل فقط لا للتشابه أو لتساوي القيمة الأدبية، في تلك السنوات التي كان رائجاً فيها ــ أو هاروكي موراكامي، أو غيرهم من الكتّاب، إلى القارئ العربي دون عمل تلك المؤسسات الإعلانية الخفيّة التي تمتلك خُبراء في الترويج وفي مطالب السوق، أو حاجاته. والظاهر أن خبراء تلك المؤسّسات الترويجية، يعرفون ما الوظائف الروائية، أو وظائف الحكاية، التي يمكن ترويجها في زمنٍ ما، وما الوظائف التي تذهب إلى الكساد في الزمن نفسه أو في زمن آخر.
والمسألة المهمّة هنا هي رضوخ الروائيين أنفسهم لمثل هذه السياسات، وانخراطهم في الرائج واعتبار أن هذا النمط السائد هو معيار الكتابة، والخضوع لمزاج القرّاء المصنوع بدوره في مختبرات الدعاية والترويج.
في هذه الحالة يتحوّل الروائي بإرادته إلى تابع، إلى قوّة ثالثة تابعة، بعد المؤسّسة والقارئ، ويصبح الأمر كارثياً في بلداننا التي تأخذ فنّ الرواية كلّه من مصادر أخرى. حيث يمكن أن ينساق الروائيون وراء الموضة، وفي هذه الحالة يمكن للجوائز، إذا ما أخذتْ سياقاً ما، أن تكون أحد عوامل تعرية الروائيين من أصواتهم الخاصّة ومن تفرُّدهم. وهي مشكلة تُظهر هشاشة الثقافة العربية، أو غير العربية، الروائية.
* روائي من سورية