أعطِيهم خدَّكِ الآخر
هذا العالَمُ الأبيض
الذي لمْ يعد يُؤمنُ بِالمسيح
يُناشدُكِ يا غزَّة بِكلماته:
أعطِيهم خدَّكِ الآخرَ.
لا يُؤلِمُهم تاريخٌ أو جُغرافيا
أعطِيهم خدَّكِ الآخر يا غزَّة
أعطِيهم البحرَ
كيفما شئتِ هذه المرَّة.
يُناشدُكِ العالمُ الآن
وأنتِ تشهدينَ ما لمْ تشهدهُ مدينةٌ على الأرض
أن قبِّلي يدَ من قتلَ أبناءكِ.
لكن لا شيءَ يا غزَّة سيُعيدُ الأشلاءَ
إلى أجسادٍ كاملةٍ
لا سلامَ سيُعوِّضُ حتّى جنازةً واحدةً
مِن كُلِّ تِلكَ الجنازاتِ التي لمْ تحظَ بِشُهدائها.
رُبَّما لمْ يعُد يصعدُ الشهداءُ إلى السماء
أو لمْ يعُد يحظى جميعهم بِهذا الترف
كيفَ يُمكنُ للأشلاءِ أن تُحلِّقَ عالياً؟
رُبَّما لمْ يُسلِم الشهداءُ للشهادة
إلّا حينَ أدركوا أنَّها الطريقُ الوحيدةُ
لالتحامِهم مع أرضِهم أبدَ الأبد.
*
لا شارعَ ولا حاكمَ مِنَ الشرق أو الغرب
يمسحُ الموتَ عن جبينكِ يا غزَّة
لا شارعَ ولا حاكمَ يُقدِّم لكِ العزاءَ على الأقلّ
لا بُدَّ أنَّ الطائراتِ تحولُ دونَ تدخُّلِها
لا عليكِ يا غزَّة...
يُقالُ إن الموتَ نِعمةٌ يفتقدُها المُخلَّدون.
مِصرُ جاءتكِ أخيراً بِأحصِنةٍ طروادية
لا حِصاناً واحداً فقط
زغرِدي
فالأحصِنةُ - لا سمحَ الله -
ليست مُعبَّأةً بِالجُنود
أغذيِّةٌ فقط
كي لا تموتي يا غزَّة
جائعة.
الأحصِنةُ مُعبَّأةٌ بِأكفانٍ لا تليقُ بِجيرة الفراعنة
وليس بينها نُسخةٌ واحدةٌ لِكتابِ الموتى
ليس بينها قطرةُ وقودٍ واحدةٍ تُضيءُ علينا
فنُميِّزُ بها موتَنا مِن نجاتِنا...
هلّلي يا غزَّة
لمْ نعُد نُقتل بينما ينامُ العالم
العالمُ مُستيقظاً جِداً: يرقصُ ويُغنِّي
بعضُهم يقرأُ ما يَحتملُ مِن أخبارنا
وقليلٌ يتظاهرونَ في أوقاتِ الفراغ.
وعالمُنا العربي على أحرّ مِن الجمر
ينتظرُ أن تمضي ألفُ ليلةٍ وليلة
كي تُخلِّصي يا غزَّة نفسَكِ
بِسردِ آلافِ الضحايا…
■ ■ ■
تأخَّر الوقت لأقولَ لكم
ماذا أقول عن الحربِ يا غزّة؟
ما مِن كلمةٍ واحدةٍ تطفو بي
أمامَ هذا الطوفان.
*
يقولونَ إنَّ الشعراءَ قالوا كُلَّ شيءٍ قبلي
وإنَّهم حتماً يقولونَ كلَّ شيءٍ الآن
ولا بُدَّ أنَّهم سيقولونَ كُلَّ شيءٍ لاحِقاً.
هل نَبَّهَ أحدٌ شُعراءَ العالم
أن الجرحى والمُشرَّدين هُم الأبلغُ؟
شِعرهم يفيضُ الفضائيات ويُفكِّكُ الشبكات
لا أحدَ يجرؤُ على تدوينه على رُكامه
لا ذاكرةَ تجرؤُ على وشمهِ على جسدها.
أمّا الشهداءُ فامتدادٌ للطبيعة
للشِّعرِ الإلهي الذي لا يُغتفر
أشلاؤهم أسماء لمْ يُعلِّمها أحدٌ بعد
لأبناءِ آدم...
*
الفِيلةُ اقتحمت كُلَّ الغُرف
داست الأطفالَ في نُعاسِهم
أطفال الحرب دُمىً تنزفُ دماً
لا يسعني ولا يسعُ أيَّ لُغة
أن نُسمِّيها أشلاء...
والجِمالُ لا زالت تنتظرُ من يفتحُ لها الأبواب.
يا أُمَّةً مصبوغةً بِالدهان الأبيض
كيف لا ترونَ دمنا الأحمر على أياديكم؟
ألمْ يُصِبْ رمادُنا وجوهَكم بعد؟
تأخَّرَ الوقتُ لأقولَ لكم:
لا تتَّبِعوا خُطوات أميركا
لا تعصِبوا أعينَكم تيمُّنناً بِعماها.
*
كُلُّ شيءٍ قيلَ عن أيِّ حرب
لا بُدَّ أنَّهُ قيلَ عن هذه الحرب أيضاً
لكن، هل كُلُّ شيءٍ قيل عن هذه الحرب
قد قيل أيضاً عن حُروبٍ أُخرى؟
■ ■ ■
هذا ما يقوله صمتُ العالم
لا حظَّ للغزِّي إلّا في موتِه
لا قدرَ له أصلاً سِوى موتِه
هذا ما يقولُه صمتُ العالَم
حتّى خوفنا أكله صمتُهم.
قالوا لنا: لِمَ الخوفُ
وتِلكَ الويلات قد جنيتم بها على أنفسكم؟
ثُمَّ انصرفوا لِيُتابِعوا أعباءَ حياتهم
ولَكَم حيّرتهم حينها حُريّاتهم.
ما جنينا مِنكَ شيئاً أيُّها العالَم
غير أنَّه كُلَّما أورقَت قليلاً أشجارُنا
غطَّى الخريفُ أرضنا وسماءنا.
ما نفعُ الحقيقة الآن إن بُترت أطرافها؟
كيف لها أن تشُقَّ طريقها إليكم؟
كيف لها أن تُسلِّمَ عليكم وتأمنَ لكم؟
*
يا أبناءَ القِطاع المغمور بِالحظّ
جاءكم "الشعبُ المُختار" بِجهنَّمَ
لتقودكم إلى الجنَّة.
جاءكم "الشعبُ المُختار"
يجرُّ بِذيلِه شعوباً وقبائلَ
ذليلة...
تمهَّلوا على الصراطِ المُستقيم
ولا تُفلتُ يدُ أحدكم يدَ الآخر
تنعَّموا سوياً سوياً على الأرائكِ والأنهار
ابلعوا عذاباتكم بلعاً
ولا تتقيّؤوها حتّى في كوابيسِكم
فلا تعود تغزو الشياطين جنَّتَكم.
ولا يستعجلُ أحدكُم أن يرى وجهَ ربِّه
رُبَّما القصفُ مُنقطعُ النظير
يهزُّ أيضاً عرشه.
لا تقلقوا، لا بُدَّ أنَّ السبعَ سماوات تتّسعُ
لعددٍ لا نِهائيٍ مِن الأرواح
لكنّي أتساءلُ كم ألفَ طفلٍ
ستتحمَّلُ جلبتَهم بِلا أعمِدة؟
*
يا ربّ
إن كان زمنُ المُعجزاتِ قد انقضى
لِمَ لمْ ينقضِ معه زمنُ المجازر؟!
يا ربّ
كُنّا لا نفطِنُ كم روحاً خسرنا كُلَّ مجزرةٍ
الآنَ لا نطيقُ عدَّ المجازر...
يا ربّ
ارحم صبرنا
ولا تُمهلهم أكثرَ مِمّا فعلت
أو على الأقل
أعطِنا بعضاً من غيبِكَ
وأخبرنا إلى متى ستظلُّ
تُمهلُهم غضبَك؟
■ ■ ■
كي تموتَ عنقاء
في غزَّة
يتنعَّمُ الناسُ بِالعتمة
في انتظارِ صواريخ تنهالُ عليهم
تُدَّمِلُ جِراحهم مرَّةً أخيرةً وإلى الأبد
رماداً، رُكاماً، وأشلاء...
وحدَهم مَن ارتقوا شهداءً ينامونَ
دونَ أن تُوقظَ أشعَّةُ الشمسِ أشلاءهم.
*
هل ما زالت عنقاءُ غزَّةَ في مكانها؟
هل احتملت أن تشهدَ أشلاءَ خمسمائة شهيد
تتناثرُ مِن "مُستشفى المعمداني"
دُفعةً واحدة؟
عمَّدَ الصهاينةُ مدينتي بِالدماء والرماد
كي تموتَ عنقاءً
ولا تكونَ لها بعد ذلك وِلادة.
من يُعمِّدُ العنقاء
إذا وُلدت مِن جديد؟
*
لنْ يذكُرَ التاريخُ أيَّ حرفٍ مِن اسمي
ولن يذكُرَ أُمّي التي ولدتني في تلكَ المستشفى
وِلادةً تركتني أعرُجُ
حامِلاً نجاتي على الكتفين.
لن يذكُرَني التاريخُ لا اسماً ولا فِعلاً
لا راحةَ لي إلّا في ذلك
تراهُ ما زالَ يهمسُ لي
كُلَّما أرحتُ رأسي على وِسادة:
تِلكَ الحياةُ التي تظلُّ تصبو إليها
لن تجدها على الإطلاق.
لا أدري عن أيِّ حياةٍ يتحدَّث
أيّ حياةٍ تِلك
التي ينوي العالمُ أن يحياها
من دونِ غزّة "تغزُّ" ضميرَه كُلَّ يوم
من دونِ غزّة تغزو كوابيسه كُلَّ ليلة؟
* شاعر فلسطيني من غزّة