"نوادر نصر الدين الصغرى" لسحبان مروة.. هكذا تكلم الملّا

16 يوليو 2023
تمثال نصر الدين جحا في بخارى بأوزبكستان (Getty)
+ الخط -

"نوادر الملاّ نصر الدين الصغرى"، الذي تصدر طبعته الثانية عن "دار النهضة العربية"، هو كتاب الراحل سحبان مروة الذي مضى عقدٌ من السنين على غيابه. الطبعة الثانية هي أيضاً جديدة، إذ إنها تتجاوز بكثير، في مادتها وحجمها، الطبعة الأولى التي كان مقدارها لا يتجاوز نصف الطبعة الراهنة. أمّا نوادر الملّا نصر الدين الذي نعرفه باسم جحا، فهي في كتاب سحبان ليست نوادر فحسب، ممّا يُتداول عن جحا، أي هي بهذا المعنى ليست للتفكّهة، كما يُستخلص أحياناً من كلمة نوادر، بل هي في عنوان سحبان "صغرى"، لا تبعث على الضحك إلّا لماماً، فهي بالقياس إلى نوادر جحا المعروفة "الكبرى"، أقرب الى التأمّل والحكمة والفكر البحت. على هذا ليس كتاب سحبان نوادر، إلّا بهذا المعنى. إنها نوادر بما تعنيه النادرة من الفرادة والبثّ والبوح.

أمّا نسبته إلى الملّا نصر الدين فمحض ابتكار، بل إنه، من بعيد، يذكّر بما فعله نيتشه حين نسب تأمّله إلى زرادشت، في كتابه الموسوم "هكذا تكلّم زرادشت". يمكن لكتاب سحبان مروة أن يحمل عنواناً مماثلاً، فليست نوادر الملّا نصر الدين سوى ما مقابله "هكذا تكلّم الملّا". والحقّ أنّنا في قرابة ثلاثمائة صفحة، نسمع الملّا يجيب عن أسئلة تناولت موضوعات شتّى. هكذا يتكلّم نصر الدين عن الدين والله، وليسا بحسبه شيئاً واحداً، فللدين فقهاؤه ورجاله وتآويله ومذاهبه وشيعه. الدين هنا هو غالباً الإسلام بملله ونِحلِهِ وشِيَعِه وطرُقِهِ. هناك إلى جانب الدين الحياة، بما فيها من عواقب، وما فيها من شؤون. هناك الجسد والحبّ، وهناك السياسة والحُكم، وهناك الوجود بلغزه، والموت بمعانيه، والجسد والحب والمرأة والرجل. 

النص بكامله مبني من احتجاج متواصل، على كلّ ما رسخ واستوى في الأذهان

هناك أيضاً الجمال والكينونة والشعر والفكر، نقرأ هذا كلّه فلا نجد أنفسنا قبالة متواتر شائع دارج. لا نجد أنفسنا قبالة إنشاء بحت، وتمارين كلامية، وعود على سوابق. إنّما نحن أمام فكر حرّ، أمام فكر حرّ ينهال بالمطرقة على كلّ تاريخ في التقليد والعادة، وعلى كل ما تصنّم وتقعّد واستقام حقيقة أو صنواً للحقيقة. نحن هكذا أمام دعوة وجهُها الأبرز هو النقد والاعتراض والسلب والتحطيم والهزء والتجريح والتهكّم، الذي يطلق ما يشبه النكتة أحياناً. كذلك قول الملّا لزوجته إنه امتنع عن الطعام والشراب، ما اعتبرته الزوجة من داء الحب، لكنّ الملّا يعقّب على ذلك بأنّ سببه الإفلاس، الذي بالتأكيد جرّه الزواج إليه. إلى جانب ذلك قد يطلق التهكّم، وما يشبه اللعن الصريح، والاستنكار الفظيع.

إنّنا هنا أمام كتاب يحوي دعوة لا تستقيم تماماً في بنيان واحد. من الواضح أنّ النص يقفز أحياناً إلى استنتاجات تبدو في حدّتها وكأنّها ابنة وقتها، وأنّها في ذلك تتفاوت مع أحكام أُخرى. مع ذلك فإنّ النص بكامله مبني من مفارقات، ومن خلاصات صادمة، بقدر ما هو مبني على اللعن، على التضادات والتناقضات، في حين أنه مبني من احتجاج متواصل، على كلّ ما رسخ واستوى في الأذهان.

من هنا، يبدو الكتاب، في موقفه من الدين ومن الفقهاء، قريباً ممّا نحا إليه الكتّاب اللبنانيون، روّاد أوائل القرن الماضي، جبران على وجه الخصوص. كان هؤلاء، وجميعهم مسيحيون، أصحاب دعوة ارتكزت على نقد التقليد الديني ورجال الدين. سحبان مروة، وهو مسلم شيعي، يجاريهم، لكن من مرتكزه وجوّه. هكذا لا نجد فقط، نقداً متواصلاً، يصل إلى التشهير، لرجال دين مسلمين، كما نستنتج من قضاياهم وفتاويهم ومسائلهم. بل إنّ مروة يكاد يركّز نقده على "الرافضة"، كما يستدعي الاسم القديم للشيعة. هؤلاء الرافضة، هم بقضاياهم ومسائلهم، موضع المواجهة الأولى لنوادر نصر الدين.

الصورة
غلاف الكتاب

لكن المسألة تصل أحياناً إلى صلب الدين وإلى أركانه، نبقى هنا عند الإسلام، مما يقارب أحياناً التجديف الذي لا يبالي مروة بأن يردّده بالاسم، بحيث إنه لا يستهجن الكفر ولا يندّد به. إننا إزاء نقد الدين، أو على الأقل نقد تاريخه وخطابه وبنوده. لكن نقد الدين، وهو هنا غالباً الإسلام، لا يجعل من مروة ملحداً. حين يُسأل نصر الدين، ملحد أنت؟ يجيب بما لا يتوقّع: "ليتني كنت، ولكن أنّى لي"، بل هو، في مطرح آخر، يقول: "لا أعرف ذاكرة كالطريق، ولا أعرف طريقاً كالله". مروة يجعل الدين أو تاريخه، في الأقل، في ناحية، ويجعل الله في ناحية أخرى. ليس ملحداً بالله، ولكنه ملحد بالوطن، وملحد بالطائفية، وملحد بالجدل الديني، الذي يتناوله غالباً بقدر من السخرية. يمكننا هنا أن نقول إن تجربة رواد الماضي القريب المسيحيين تُستعاد في المحيط الإسلامي، بل والشيعي، وإننا ندخل هنا في نقد للفقهاء وشواغلهم.

لذلك يمكن أن يندرج في سياق الإصلاح، والنقد الذي بدأ من القرن الماضي، وها نحن نجد جبران آخر يبدأ، هذه المرة، من التراث الإسلامي والشيعي بخاصة، ويعرض خطابه، في جملته وتفاصيله ومواده، لنقد جارح في أحيان، ساخر على الدوام، صدامي بدون أن يخفي ذلك، عدمي وسلبي. إذ إنه يصل إلى إنكار الحياة، والسخرية من الوجود، والنعي على كل شيء.

هنا السخرية والتهكّم والهدم والاستفزاز والنفي المتصل، بدون دعوة، اللهم إلى إنكار الوجود والحياة، في ما يصل إليه تهكم لا يوفّر شيئاً. لكن ما تكلّمه نصر الدين يقودنا في لمحات منه إلى الأدب، الذي هو قوام لغة الكتاب ومسراه، بل يقودنا إلى الشعر، أو ما يشبه الشعر، حين يقول نصر الدين إن "الشعر العظيم إنما هو من الفراغ العظيم"، وحين يقول "إلى أين يمضي النور حين نطفى القنديل"، وحين يقول إن "الظل هو صدى الطريق". نقع هكذا على شعر، أو ما يشبه الشعر. ننتبه عند ذلك إلى أننا قرأنا نثراً، هو باستمرار على حافة الشعر، وإلا فهو أدب بحت.

المساهمون