ننمو في غزة لنزهر في القدس

26 مايو 2021
("أمهات الشهداء"، حامد عبد الله، 1956)
+ الخط -

القدس أغنيتنا الطويلة

تشبهنا هذه الشمس التي لا تغيب
تشبهنا هذه الظلال التي تتركها فينا
تشبهنا هذه الجدران، هذه الحجارة

نحن سماؤها كل فجرٍ، وبحرها كل مغرب،
نورها من دموعنا، نارها من دمائنا،
هي ذاكرتنا التي أمطرت في كل زمان ومكان.

وهي لحمنا:
ينمو البشر فيها ليمسي شجراً،
ينمو الشجر فيها ليصبح بشراً.
لن تُفلح فيها البذور الغريبة!

جلستُ فيها ذات مساء،
تحدث الصمتُ فينا كثيراً
وها أنا أتحسّسُ به طريقي وألمي
عسى يحملني ثانيةً إليها هذا الكلام!

أيتها القدس
رأيتُ فيكِ غزة حين وصلتُكِ،
ورأيتُكِ في غزة حين وصلتها.

تباركتِ وتعاليتِ
أيتها الشمس التي تروي أرضنا
أيتها الظلال، أيتها الجدران، أيتها الحجارة،
التي تعزف أغنيتنا الطويلة!


■■■


أنمو في غزة لأزهر في القدس 

يهدمني القلق
أُحاول الوجود
يحملني الأمل
أنجو مرّة، مرّتين، ثلاثاً، أربعاً
رغم أنني أموتُ مرّات كثيرة

يقول البيت: ابقَ معي كي نموت سوياً
أقول للبيت: تعالَ معي كي ننجو سوياً
ينصرف الليل مع السؤال، يهمس لنا الويلُ:
لا يموت أحد إلّا وينجو شيء منه
ولا ينجو أحد إلّا ويموت شيء منه

تبدو النجاة قليلة،
أنا لا أنجو فقط
أنا أنمو هنا في غزة
لأزهر في القدس قريباً

"أنا" كالتي في "نحن"
نحن ننمو في غزة لنزهر في القدس!


■■■


يا ابن الشيخ جرّاح

(إلى محمد الكرد)

ما الذي فعلته بهم
ما الذي فعلته بنا يا ابن الشيخ جراح
أيها "المخرّب" الجميل
الذي يحمل أفتك أنواع الأسلحة

من أين جئت به وأنت بالكاد تتجاوز عمر آخر انتفاضة؟
كيف أصبت به كل العالم وأنت لم تغادر مكانك؟
ألم يكن يفترض أن تموت جدتك وتكون أنت قد نسيت؟
كيف جرؤتَ على أن تتذكر فلسطين في وجه عالَم إسرائيل؟!
كيف جرؤتَ على أن تتذكر النكبة في وجه ضحايا الهولوكوست الطيبين؟

فلتشاهدك الشعوبُ والقادة...
كيف تنفضُ الغبار عن فلسطين وكل الفلسطينيين 
وأنت في حيّ يحاصره رجال الله المختارون
كيف تدّعي أن ما يحدث هو تطهيرٌ عرقيٌ بينما هو مجرد "إخلاء"
وكيف تنكر أن ما يجري في البلاد هو "مجرّد صراعٍ بين طرفين"
كيف تعيد إحياءَ "خرافاتٍ" دفنتها ملياراتُ الدولاراتِ على مَرّ السنين 
وكيف تردد كلمات محذوفة من قاموسهم الأبيض
في وجه من يجب عليك أن تطلب منهم طوق النجاة
وكيف تلوث سمعهم بكلماتٍ لم توجد في قاموسهم أصلاً!

تبارك وتقدّس نور القدس في وجهك 
تبارك وتقدّس سلاحك الذي أيقظ أسلحتنا
كيف جعلتَ كل فلسطين تنتفض وكل الفلسطينيين
وأنت بالكاد تتجاوز عمر آخر انتفاضة؟

هل تدرك أنك أنقذت كثيراً من أحياء هذا العالم
حين قلت "أنقذوا حيّ الشيخ جرّاح"؟
كيف لم ينتبهوا إلى هذا السلاح البسيط؟
كيف لم ينتبهوا إلى أنهم ما زالوا يمدونك بالذخائر؟
حربٌ وإضرابٌ وهبّة ومظاهرات تهتف من أجل حريتنا
فيما هم يقصفون ويقتلون ويعتدون ويهتفون
من أجل موتنا!

عشتُ ثلاث حروبٍ
لكن هذه المرّة الأولى التي أشعر فيها بالأمل
بسبب كلمة قلتها يا ابن الشيخ جراح...

ها قد بدأ شعبك حقاً يدقُ جدران الخزّان يا غسان
ها قد بدأنا نبصر حقاً ملامح حنظلة في وجوهنا يا ناجي
أساليب القتل لن تستطيع دائماً اللحاق بأساليب الحياة
لن تقف وحدك، سنعودك وتعودنا يا ابن الشيخ جراح
وسنحيا أكثر كلّما قتلونا
سنحلم أكثر كلّما قتلونا.


■■■


الشهيدة

حذَّروكِ
- يا للطافتهم! -
لتُخلي بيتكِ.

يا الله، كيف يُخلي المرء في آنٍ مكاناً وزمان؟
والذكريات والآمال، كيف تُحمل كلّها إلى قلقِ الأمان؟

منحوكِ عشر دقائق
وكنتِ قد "أتممتِ" الإخلاء
لكنّ الناس وقفوا في الشارع على رعبهم
وهمْ يشاهدونكِ ترجعين إلى بيتكِ، إلى جسدكِ
في الثواني الأخيرة!

تجمّد الهواء، سقطت الصواريخُ

قصفوا "الهدف"
لمْ يتأخروا ثانية واحدة
لنعرف ما الذي يجعلكِ ترجعين إلى البيت "المهدد"
لنعرف ما الذي كان أثمن بكثير من ثوانيكِ الأخيرة...

سقطت الصواريخ، ذاب الهواء

صرَخَ الناس في وجه السماء
التقطت الصحافة صوراً وأصواتاً كثيرة
الناسُ أقسموا أنكِ نجوتِ وعشتِ
وإني واللهِ أصدِّقُ الناس
لكنهم لم يذكروا للعالم: هل عاش البيتُ أيضاً معك؟


■■■


بطاقة تعريف للزنانة

سينفجر رأسي وكل جسدي
في جميع الأحوال
إذا لم يحدث ذلك بسبب القصف الذي لا يتوقف
أو بسبب الأخبار التي، أيضاً، لا تتوقف
فإنه سيحدث حتماً بسبب صوت "الزنانة"
التي، حرفياً، لا تتوقف!

هذه التي يسميها الصحافيون اللطيفون "طائرة استطلاع"
التي يسميها المحتلّون اللطيفون "طائرة بدون طيار"
لا تمل من استطلاع أمر أحياءٍ بدون حياة.
يسمونها طائرة وهي بصوتها العالي البشع
أشبه بسيارة تمشي في قلبِ الشوارع!

فوضى جوية أرضية
تحقنُ رؤوسنا،
صباحاً ومساءً،
صيفاً وشتاءً،
بالقلق!

حقن مستمر، وتذكير أبديّ
كي لا تنسى الموت إذا كنت لم تمت بعد،
كي لا تفكر بالحياة إذا كنت لم تزل حياً.

أحقر شكلٍ دائمٍ للاحتلال على الإطلاق
لدرجة أنه يبدو أحياناً هامشياً وغير مهم.
عقابٌ أبديٌ إضافيٌ مميز لنا في غزة.

تذكير أبديّ من السماء
بأنه إذا تمكنت من أن تُوقف التفكير لحظةً بما يحصل
إذا تمكن منك التعب وحاولت أن تنام
فإن عذاباً لطيفاً في انتظارك!

إذن،
غزة ليست مجرّد سجنٍ كبير كما تظنون،
الزنانة هي سجّانته التي لا تخرس أو تنام
ببساطة، تعذيبٌ غير إنساني
لدرجة أنه تُركَ للتكنولوجيا وحدها لتقوم به
وقت الحرب ووقت "السلام"

تعذيب مستمر لا يوثِّقه أحد
ولا يذكره أحد حتى في لائحة إدانة
كأنه حق طبيعي من حقوق الاحتلال!


■■■


انتفاضة

كلما قرأتُ منشوراً يدعم قضيتنا
كلما شاهدتُ فيديو "يوثِّق معانتنا"
كلما قرأتُ رسالةً تطمئن علينا
تساقطت الدموع منّي

يؤلمني أني أحاول إيقافها
يؤلمني ألّا أُميّز إن كانت دموع حزنٍ أم أمل
يؤلمني أن أحاول أن أكون شجاعاً
بينما لا شيء هنا يُعطيني أماناً

أريدُ أن أكونَ جزءاً مما يحدث
بقدرِ ما أريدُ أن أبكي على ذلك.

أراهم، من هم هنا
ينفضون عنهم خوفَ اللغة
أراهم، من هم هناك
يحرّرون حواس العالم!

بدموعي وجسدي،
أريدُ أن أكونَ معهم هنا،
أريدُ أن أكونَ معهم هناك... 


■■■


لكني أيضاً أموت

أكتبُ، أكتبُ
مع أنني أعرف أن الدمار طال الكثير من الكلام
لكن ماذا للأحياء مثلي أن يفعلوا في الحرب؟

عد النجوم أسهل من عد الصواريخ
لكن لا نجوم حولي ولا حتى سماء
فقط ليلٌ يتعاقب مع الويل

أريد أن أنام أو أموت، أيتها الحرب
لا أريد اللعب.
أريد أن أكون خبراً، أيتها الحرب
أشقتني متابعة كل خبر!

أنتظر أن أسقط مع الحجر،
أنتظر أن يتحرّر الوطن...

من يصدّق!
أنني أرى قلبي في ليل غزة
في القدس، في اللد، في حيفا
لكني أيضاً أموتُ
فهل أُطعم الأمل مزيداً من فئران قلقي
أم أتركه يَطعنني؟!

أفكر في البيوت التي سقطت وحدها
أفكر في البيوت التي سقطت على أهلها
أفكر كيف أن الشهادة لم تعد معجزة
أفكر في الناجين بأعجوبة
أفكر فيمن فقدوا أمسهم، فيمن فقدوا سماءهم...


■■■


كي تُسجّلَّ الحربُ حضوري

تسقط الصواريخ في المدينة من حولي
تزيد أشباح الموتِ في غرفتي

وأنا ممددٌ على السرير
لا أفكر بأشياء تافهة مثل النوم
أفكر في الموت...

في غرفةٍ لا شرقية ولا غربية
أغلقتُ عينيّ كي لا أراها
أغلقتُ بابها كي لا ترى البيت
وتركت النافذة مشرعة
كي تُسجلَّ الحربُ حضوري...

مع كلِّ صاروخٍ،
أحاول تجميع البيت كلّه في جسدي.
تكاد روح البيت تخرج من الأرض التي تحته،
أما روحي بالكاد تعود إلى اللغة،
وكلانا يتخلخل، "يرقص"، يهتز...

أشعر بألمٍ في بطني كأني قد بلعتُ دبابةً للتو،
وألم في رأسي كأنَّ الصواريخَ تنفجر فيه.
شربتْ عظامي كل ما في جسدي من دمٍ،
والتقطَ القلقُ كلّ أنفاسي.

أنجو من الموتِ
ولكنّي لا أعود إلى الحياة
أُغني، أُصلّي لجرحي،
كي يحملني إلى السماء!


* شاعر فلسطيني من غزة

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون