نعيٌ كاذب

08 فبراير 2024
جزء من عمل لـ لاريسا صنصور
+ الخط -

ماذا تفعل كلُّ هذه النسوة هنا؟ لِمَ كلّ هذا الضجيج؟ لماذا توزَّع المصاحف في بيتنا؟ هل تحسبن أنفسكن في مأتمٍ؟ لماذا تتحدّث هذه السيّدة عن فضل الصبر؟ وتلك، تربطنا بها قرابةٌ بعيدة، تسمح لنفسها فجأة بالحديث عن "لباس المرأة الشرعي"، لِمَ تبدو بنات عمي مجبرات على الإنصات؟

هاك جارتنا القديمة سوسن.. كيف استدلّت على بيتنا الجديد؟
- أهلاً يا سوسن. ما الذي أتى بك إلى هنا؟
- "العوض بسلامتك"، تقول.
- من يعوّض من؟ أقول.

يأتي اسم نضال على لسان سوسن، أوف أوف أوف.. ما هذا الانفتاح؟ ألم يكن ممنوعاً عليك النظر إليه أيام المراهقة؟ كيف تذكرينه الآن ولديك خمسة أطفالٍ يا سوسن؟

تتحدّثين عنه بصيغة الماضي، تدعين له بالرحمة، تجلسين وفي يدك جزء من القرآن. سأشارك في الختمة، تقولين.
من الذي حدفكِ علينا يا سوسن؟ أهي إحدى مؤامراتك؟ تستخدمين اسم الله لتذكري نضال... "ليرحم الله نضال"، تردّدين براحة تامّة؟ يا سوسن، يا سيّدة الخباثة؟ الحمد لله ثمَّ الحمد لله لم تكوني من نصيبه.

وأنتن.. يا نسوان الحيّ، يا نسوان العائلة، من دلّكن علينا؟ هل استخدمتن خرائط غوغل الغبيّة؟ هيا يا نسوان، انصرفن، قال لساني المنعقد عن الكلام، للحشد الذي رأيته فجأة ينعى أخي.

وعلقت صرخة في كبدي.. "لا تؤاخذنني يا نسوان.. معلش.. كلّ واحدةٍ إلى بيتها، أو ابحثن جيّداً عن بيت العزاء الصحيح بعيداً عن بيتنا.. يلا، يلا.. فال الله ولا فالكن.. من هذا الذي تتحدّثن عنه بصفة الماضي؟ كان كذا وكذا.. من هذا الذي كان؟ من هذا الذي لن يكون؟ توقّفن عن ترديد هذه الترّهات".

ها هو هنا، ها هو أخي نضال، هنا، ممدّدا قبالتي على سرير أزرق. امتنع الطبيب عن الكلام. لم يقل ما تردّده النسوة.. دخلتُ إلى غرفته الفارغة إلّا منه، وهو في شرنقة بيضاء، ورأيت روحه تطير.. لم تبتعد كثيراً.

لم تكن قد فارقت الغرفة الصغيرة بعد.. ولذا صرختُ بها: آآ ولم يكن لحرف الخاء في "آخ" أن يتشكّل في حنجرتي المقطّعة. صرخت آآآ أخرى وثالثة ورابعة وأنا أحاول أن ألقف شيئاً ما في الفراغ لأعيده لهذا الجسد الذي تمددّت بجانبه على ذلك السرير وحضنته دون أن يحرّك ساكناً.

هززت بعنفٍ ما كان لغيري أن يسميه "جثّة هامدة".

هززته بقوّة لأوقظه ممّا ظننته غفوةً.

جاء أحدهم، مشيراً بإصبعه للسرير، مستئذناً أخذ "الجثة" للطب الشرعي.

نظرت إليه. لم أُدرك حينها إن كان يقصدني أنا أم هو.

 

* صحافية ومترجمة أردنية فلسطينية مُقيمة في نيكاراغوا

المساهمون