نظريات المؤامرة: هوس على قاع الهويات

03 سبتمبر 2024
يُفسر الإيمان بنظرية المؤامرة من خلال الأوساط الاجتماعية والثقافية التي ينتمي إليها الفرد
+ الخط -
اظهر الملخص
- **انتشار نظريات المؤامرة**: تزدهر نظريات المؤامرة في المجتمعات العربية والعالمية خلال الأزمات، مع تزايد الدراسات حول الآليات النفسية التي تساهم في نشأتها، مثل أحداث 11 سبتمبر ومنشأ فيروس كوفيد-19.

- **دراسة كنزو نيرا**: في كتابه "المؤامرة والبحث عن الهوية"، يوضح نيرا أن الإيمان بنظريات المؤامرة يعكس القيم والمبادئ الشخصية، مقسماً كتابه إلى ستة فصول تتناول الظاهرة علمياً وعلاقتها بالانتماءات الجماعية والتفاوت الاجتماعي.

- **البحوث الميدانية واستنتاجات نيرا**: أجرى نيرا بحوثاً ميدانية تؤكد ارتباط "العقلية التآمرية" بالانتماء الطبقي، مشدداً على أهمية المنهج التجريبي في العلوم النفسية الاجتماعية، ويعمل حالياً في "الجامعة الحرّة" ببروكسل.

في ظلّ حجم المآسي التي عانت وتعاني منها المجتمعات العربية، ازدهرت نظريات المؤامرة وانتشر الاعتقاد بأنّ كل ما يصيبنا هو نتيجة أفعال الآخر الذي يُجسّد الشر المطلق ويسعى للقضاء علينا. ومع ذلك، فإنّ هذا الشعور وما يتولد عنه من خطابات "ضحيّاتية" ليست حكراً على المجتمعات العربية ولا على الفئات المهمَّشة، بل بمثابة سردية تُرافق كل المجتمعات البشرية وتظهر بشكل خاص خلال فترات الأزمة وأوقات الشدّة.

ولهذا السبب، ازدادت الدراسات التي تتناول هذه الظاهرة من زاوية الآليات النفسية التي تُساهم في نشأتها وتجعلها تُهيمن على تفكير بعض الأفراد والجماعات. فمَن منّا لا يتذكّر الشائعات التي انتشرت بأن أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001 لم تكن من تدبير "تنظيم القاعدة" بل من تخطيط الدولة العميقة في الولايات المتحدة الأميركية؟ وكذلك مَن لا يعرف الشكوك التي أُثيرت حول مقتل الرئيس جون كينيدي وحتى حول صعود الإنسان إلى سطح القمر؟ ثم ألا نزال نسمع عن الشكوك التي تحوم حول منشأ فيروس كوفيد-19 وظروف انتشاره في أصقاع العالم؟

في كل هذه الحالات، كان مبدأ المؤامرة مرتبطاً بالحالة النفسية للمجتمعات المتأثّرة. لكن هذا التفسير وحده لا يشرح الظاهرة بشكل كامل نظراً إلى تعدّد المضامين التي يمكن أن يتلبس بها مبدأ التآمر: من إسقاط طائرات إلى تفريخ جراثيم!

يرتبط مبدأ المؤامرة بالحالة النفسية للمجتمعات المتأثّرة

ولذلك، اجتهد الباحث البلجيكي كنزو نيرا، المتخصّص في علم النفس الاجتماعي ودراسة محدّدات الهوية والانتماء، في كتابه  "المؤامرة والبحث عن الهوية"، الصادر حديثاً عن "PUF" (مطبوعات الجامعة الفرنسية)، بإثبات أن هذه النظرية تنمو أيضاً بشكل وثيق حسب الأصول الثقافية والاجتماعية التي يتحدر منها الأفراد. بمعنى آخر، الإيمان بنظرية المؤامرة يعكس بشكل أكبر رؤية العالم والقيم والمبادئ التي نؤمن بها أكثر من كونها ناتجة عن تدخّل فاعلين محدّدين. والعقائد التي نحملها تعكس هويتنا الجماعية. 

وأما الرهان المعرفي الذي سعى الباحث لإثباته في كتابه فهو أن الإيمان بنظرية المؤامرة لا يمثّل خروجاً عن القاعدة، بل يُمكن تفسيره من خلال الأوساط الاجتماعية والثقافية التي ينتمي إليها الفرد. كما أنّ هذا الإيمان يرتبط بالعلاقات الاجتماعية داخل مجموعة ما، وهو ما يعزّز الروابط بينها ويقوي أواصرها. وعلى غرار العقائد والإيديولوجيات الأُخرى، توحّد بين الأفراد وتشكّل "الإسمنت" الذي يلحم مختلف مكوّناتها. بل قد تتحول هذه النظرية إلى أداة لتعزيز الكبرياء والشعور بالفخر لدى المجموعة.

قسّم الباحث كتابه إلى ستة فصول: تناول في الأول منها ضرورة دراسة هذه الظاهرة علمياً وإخراجها من دائرة اللا-منطق والإيديولوجيا والنقد السهل إلى مجال الدرس التجريبي، فهي ليست "عيباً" يفضي بالأفراد إلى الهوس، بل ظاهرة اجتماعية يمكن ملاحظتها علميّاً.

في القسم الثاني، عالج المؤامرة في أدبيات علم النفس مستعرضاً أهم المقاربات السيكولوجية التي اهتمت بهذه الظاهرة وأسسها المنهجية والمعرفية. وفي الفصل الثالث، وهو جوهر الأطروحة، حلّل كيفية تدخّل الانتماءات الجماعية في تشكيل الهوية وعلاقة ذلك بنظرية المؤامرة، سواء بالإيمان بها أو رفضها. وانتقل في الفصل الرابع إلى علاقة هذه النظرية بالتفاوت الاجتماعي والطبقي، وكيف يمكن أن يكون الإيمان بها ردّ فعل الضعيف على القوي، وشكلاً من أشكال التمرد على آليات السلطة والهيمنة.

قد تتحوّل هذه النظرية إلى أداة لتعزيز تماسك الجماعة

ثم توسّع في الفصل الخامس في تحليل تأثير هذه النظرية في إدراك مظاهر التفاوت واللامساواة بين الطبقات والفئات، حيث توفر تفسيرات إيديولوجية لذلك. وأخيراً، في الفصل السادس، عاد الباحث إلى التصورات التي يحملها المؤمنون بنظرية المؤامرة عن أنفسهم، وهي تصورات تراوح بين الشعور بالفخر والإحساس بالاضطهاد.

من هنا، يتضح أن هذا البحث هو استنطاق علمي للمحددات الاجتماعية التي تُنشئ وتغذي نظريات المؤامرة. لكن نيرا يؤكد أن هذه الظاهرة لا يمكن اختزالها في مقاربة واحدة نظراً لتعدد العوامل التي تصنعها، ولكنها تعود بشكل كبير إلى مبدأ التفاوت الذي يحدد بشكل كبير الإيمان بالمؤامرة من عدمه.

في مستوى المقاربة، أكّد نيرا ضرورة التطبيق الصارم للمنهج التجريبي الذي سبق لكلود برنار التنظير له، ولكن في مجال العلوم النفسية الاجتماعية. وخصص استطراداً لبيان أهمية هذا المنهج وكيفية تطبيقه على القائلين بنظرية المؤامرة وغيرهم من خلال تقسيمهم إلى فئات حسب معايير دقيقة ثم ربط الأسباب بالنتائج لملاحظة مدى تقاطعها وفق الظروف وإن كانت الأسباب نفسها تؤدي إلى النتائج نفسها، وأكد في الخلاصة نسبية هذا المنهج وحدوده نظراً إلى تعقد الوجدان البشري الذي يصعب إخضاعه لمقاربات تجريبية صارمة. وهكذا، تمكن الباحث من تقديم تعريف علمي للظاهرة بعيداً عن التصورات السلبية لها أو عن تضخيم المؤمنين بها. 

فقد قام نيرا بإجراء بحوث ميدانية شاملة، حيث استعان بنتائج استبيانات مفصلة نفذها بمساعدة فريق عمله. كان الهدف من هذه الاستبيانات هو التأكد من وجود ارتباط بين ما سماه "العقلية التآمرية" والانتماء الطبقي، وذلك لضمان أن تكون استنتاجاته مبنية على أسس صلبة من الملاحظة والتجريب. وهو ما يضع الباحث وجها لوجهٍ أمام الأفراد المُستَجوَبين حتى يجمع منهم كلّ المعطيات التي يُنسّبها بالمبادئ المعروفة في البحوث الميدانية، مثل وجود هامش للأخطاء والمتغيرات بحسب السنّ والجنس والمستوى التعليمي وغيرها.

وعطفاً على ما يشيع من نظريات مؤامرة في عالمنا العربي، لا يُمكن إنكار أن بعض مآسيه كانت نتاج تدخل غربي، مثل الاستعمار وزرع كيان مغتصب ثم تبرير جرائمه، وليست حرب غزة آخرها. هنا، تصبح المؤامرة مرتبطة بأفعال دول معينة ارتكبت انتهاكات مُوثَّقة واتخذت مواقف دبلوماسية وتحركات عسكرية مسجلة. ولذلك فإدانة التواطؤ الغربي ليست اعتقادا في التآمر تعبيرا عن شعور جماعي، شعور العرب المتعاطفين وجدانياً مع القضية الفلسطينية بهدف تعزيز وحدتهم الرمزية، بل هي موقف أخلاقي وقانوني مطلوب في سياقنا الحالي والصمت عنه تواطؤٌ.

ولذلك، ينبغي ألا يتحول تحليل نظريات المؤامرة إلى تبرير للتواطؤ الذي تمارسه الدول الكبرى على حساب الشعب الفلسطيني الأعزل، كما مورس ضد شعوب سورية والعراق واليمن وغيرها، فكلها ذاقت ويلات هذه السياسات التي لا تخرج في تقاطعها وتكررها عن "اتفاق" ضمني وأحيانا صريحٍ ومفضوح مبرم بين بعض دول الغرب. إلا أنّ الشأن كله في ألا تُربط هذه الممارسات العدائيّة بقوى خفيّة لا اسمَ لها وألا تُتَّهم تنظيمات عالميّة غيبيّة باقترافها، بل أن يحال عليها بشكل لا لبس فيه، يخرج الخطابَ من رهابٍ يرمي المسؤولية على آخرَ غائم. بكلمة، يجب ألا يتحول تحليل نظريات المؤامرة وانتقادها إلى حجب ممارسات التواطؤ والصمت والاصطفاف التي تقترفها دول "الاستكبار". وليس في هذا المصطلح ذرّة من اللاعقلانيّة التي انتقدها نيرا. 

يُذكَر أنّ كنزو نيرا باحث بلجيكي شابّ، مُتخصص في علم النفس الاجتماعي، يُركّز في أبحاثه على نظريات المؤامرة وعلاقتها بالهويّات الاجتماعية والانتماء الثقافي، ويعمل حالياً كباحث زميل في "الجامعة الحرّة" ببروكسل، حيث يتعاون مع أوليفيه كلين في دراسة هذه النظريات وأصولها وجذورها النفسية. وقد شدّد في مقالاته الأخيرة على الطريقة التي يرى بها المؤمنون بنظريات المؤامرة أنفسهم وكيفية تعاملهم مع مواقف الازدراء التي تُوجّه إليهم. 


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

المساهمون