نصيبُنا من نابليون

15 يوليو 2024
من فيلم "نابليون" (1927) لـ آبال غانس
+ الخط -

لا تزال شخصية نابليون بونابرت (1769 - 1821) تشدّ الفرنسيّين؛ والعرب تُذكّرهم ببدايات الاستعمار ودسائسه في مصر، وقد يستذكرون علاقاته المبهمة مع الإسلام وحضارته. لذلك، مع كلّ كتاب أو شريط جديد يُنجز حوله، تهتزّ أوتار الذكرى وتطفو مفارقات هذا "القائد" لدى الفرنسيّين ولدى بعض العرب على حدّ سواء.

فقد اكتشف الجمهور الفرنسيّ، قبل أيام، فيلماً جديداً- قديماً عن بونابرت، من خلال ترميم شريط يحمل العنوان نفسه، أخرجه آبال غانس (1889 - 1981) سنة 1927، وسيُعرض قسمه الثاني بعد أيام، نظراً إلى امتداده على أكثر من سبع ساعات!

هذه الاستعادة هي نتاج مجهود استغرق خمسة عشر عاماً قامت به مؤسّسة "السينماتيك الفرنسية" التي كلّفت المُخرج والباحث جورج موريي بإعادة ترتيب مختلف مقاطع الشريط المنثورة على أزيد من ثلاثمئة بَكرَة أصلية، تنضاف إليها سبعمئة أُخرى محفوظة في أرشيف "المركز الوطني للسينما"، وبعضُها الآخر ظُفر به في بلدان أجنبية، من أجل "التوفيق" بين الاثنتين وعشرين صيغة المختلفة لهذا الشريط، وقد سبق لمُخرجه أن عدّل بعضها، فضلاً عن استعادات أُخرى أُجريت طيلة العقود السابقة؛ كاختصاره في صيغ أقصر، أو إضافة حوارات أو موسيقى له.

فعندما فتح موريي البكَرة الأُولى سنة 2007، اصطدم بصعوبة المهمّة، لا سيما وأنّ فريقه لم يكن يمتلك وقتها الأدوات التقنية والرقمية التي تسمح بالترميم، بعد استخراجه من المستندات القديمة مثل البكَرات ولفّات ورق التصوير الفوتوغرافي وغيرها. ولذلك، لم تبدأ عملية إعادة التصفيف إلّا سنة 2017، حيث انكبّت مجموعة من مهندسي الصورة والصوت على أكثر من ستمئة ألف صورة مفرّقة لترتيبها ضمن عمل متماسك ومسلسل ترافقه معزوفات. كما شمل العمل استعادة الألوان الأصلية التي ميّزت ملامح الممثّلين ومشاهد الديكور الذي احتضنهم حيث صُوّرت جلّ تلك المقاطع في المناطق التي عاش فيها بونبارت.

عودةٌ إلى الماضي العسكري للنفخ في صورة فرنسا بعد أن اهتزّ نفوذُها

ومن عناصر التجديد في عملية الإعادة هذه، إضافة الموسيقى المصاحبة، إذ كان الشريط في صيغته الأصلية صامتاً، إلّا أن الموسيقي أرسمون كلوكي- لافولي بحث في عشرات القطع الكلاسيكية من إنتاج بيتهوفن وموتسارت واستخلص منها سيمفونية تستمرّ سبع ساعات، تصاحب كلّ دقيقة من دقائق العرض.

وقد بلغت تكلفة هذا الترميم أكثر من أربعة ملايين دولار، أسهمت شبكة "نتفليكس" في دفعها باعتبارها أحد رعاة المشروع، إلى جانب "السينماتيك الفرنسية"، والتي اعتبَر مديرُها هذا الإنجاز بمثابة "مغامرة"، داعياً الجمهور إلى التفاعل معها، إمّا بتأكيد الإعجاب بهذا القائد أو بانتقاد سياساته وقراراته العسكرية.

وبقطع النظر عن سيرة نابليون، موضوع الشريط، فقد أراد المُخرج لإعادة الإنتاج هذه أن تكون فرصة لبثّ الروح فيما اعتبره "أحد أهمّ الأشرطة التاريخية في التراث السينمائي الفرنسي، بل والعالمي"، حيث ابتكر غانس العديد من تقنيات التصوير والإخراج التي أثّرت في أجيال عديدة من العاملين في مجال الفن السابع.

ومن المشروع أن نتساءل إن كان هذا الشريط، في صيغته الأصليّة كما في صيغته المرمَّمة، قد راعى وجهات النظر الأجنبية، كالإيطالية والروسية والألمانية، التي كانت وثيقة الصلة بحياة الرجُل، إلى جانب العربية- الإسلامية طبعاً؛ لأنّ جزءاً من سيرته رُسمت ملامحها في مصر التي قضى فيها أكثر من سنة، وفيها دامت حملتُه ثلاثة أعوام (1799 -1801) بعد أن اصطحب مئات الضبّاط والجنود وعشرات العلماء بغاية استكشاف هذا البلد ثم تيسير نهب كنوزه؛ مما عُدّ أكبر تهيئة للحركة الاستشراقية والاستعمارية التي تجسّدت بعد ثلاثة عقود فقط في الجزائر.

وليس هذا مجرّد استنقاص سهل لهذه الشخصية، بل إشارة إلى إصرار الفرنسيّين على رفض استحضار رموز تاريخهم بعيون الدول المستعمَرة، التي عانت آثار توسّعهم، فكانت من مصادر ثراء فرنسا، ومن أسباب تمكّنها، مع أنه لا أحد ينكر أنّ حملة بونبارت شكّلت بداية "حركة النهضة" في العالم العربي.

ولا يغيب هنا أنّ الانهمام بشخصية نابليون يتنزّل في إطار العودة إلى ذاكرة الماضي العسكرية، وحتى الإمبراطورية، للنفخ في صورة فرنسا، بعد أن اهتزّ نفوذُها في أوروبا و"الشرق الأوسط"، فضلاً عن "القارّة السمراء"، وبعد أن تتالت عليها الأزمات الداخليّة، وآخرها صعود اليمين المتطرّف، وصدّه بتفاهمات سياسية رخيصة، تُذكّر بدسائس نابليون وتغيير ولاءاته، بحسب المصالح والغايات. وعليه، تأمل المؤسّسة العميقة للدولة أن تكون هذه الشخصية جامعة موحِّدة. لكنّنا لا نخالها ستنجح في ذلك، بالنظر إلى كثرة تناقضاتها وتفاوت آثارها، ثم بالنظر إلى عمق التصدّعات الداخلية التي تهزّ النسيج المجتمعي الفرنسي الراهن.

فكأن فرنسا المُمزّقة سياسياً واجتماعياً تبحث عن رمز يجمع شتاتها، فلا تكاد تجده إلّا في بقايا "قائد حربي"، اشتهر بدهائه ومعاركه وبسجلّ دموي، ولا تعثر في طياته عن لمعات من العقلانية والقيم الحضارية إلّا بين ركام الاقتتال الذي حصد آلاف الأرواح البريئة، مع أنّ سيرته مُرّرت على أنّها ذروة المجد الماضي، ويمكنها أن تُلهم حاضر البلد.

فما يُلاحَظ أيضاً هو حضور سمات من جنون العظمة التي ميّزت قديماً "الإمبراطور"، وتماهى معها المُخرج موريي، حين سعى أن يكون هذا "الترميم" نفسُه أسطورياً، وأن يُحطم أرقاماً قياسية. وهذا ما ستُبيّنه، في الأيام المقبلة، كيفية تلقّي الجمهور للشريط، ومدى استجابته لشكله وفحواه، وهل سيتفاعل إيجابياً مع آليات الترميم أم يجد فيها تشويهاً رقمياً اصطناعياً، لا أصالة فيه.

نشكّ في النتيجة، نظراً لثقل السينما التاريخية على نفوس الشباب المغرَقين حالياً في متابعة "طواف فرنسا"، وانتظار الألعاب الأولمبية، وهي على الأبواب. وستظلّ إشكالية تلقّي مثل هذه الأشرطة رهينة طُرُق إقناع المُشاهد العَجول المَلول بخوض هذه التجربة الفريدة: متابعة شريط صامت لسبع ساعات متتالية، تُلقي الوعي في خبايا تاريخ هذا الإمبراطور منذ طفولته، وما في حملاته من دهاء وصعود، من نجابة وهزائم، ضمن سلسلة من المفارقات التي لا يمكن للعقل أن يُذوّبها بسهولة.

انصرف خاطري، بعد الفراغ من مشاهدة الشريط، إلى الأفلام العربية القديمة، وتساءلتُ عن إمكانية إعادة ترميمها وإخراجها في حلّة جديدة، لما لها من قيمة فنّية أوّلاً في تاريخ السينما، ثمّ بما تحمله من شهادات على تاريخ مجتمعاتنا العربية وتحوّلاتها المفصلية. ولعلّ وزارات الثقافة في بلداننا أن تستفيد من آليات الترميم المستحدثة التي طُوّرت بمناسبة العمل على هذا الشريط وتوظيفها في بعث "روائع" التراث السينمائي العربي والسعي لنشرها، أملاً في القطع مع سيل التفاهة الهادرة الذي تُغرق الوعي والخيال.


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

المساهمون