غاب نزار قباني (1921-1998) منذ ثلاثة وعشرين عاماً. زمن مديد نسبياً لكنه لا يبرّر ما يشبه اختفاء الرجل، الذي كان في حياته، من دون شكّ، أشهر شاعر عربي. بل كان في ثقافة للشعر فيها - ذلك الحين - هذا الوزن، أشهر شخصية ثقافية.
الآن، حين نراجع "فيسبوك" لا نكاد نصادف ذكرى لنزار قباني، الأمر الذي يعصى على فهم جيل شهد صعود الشاعر الشاهق وشهرته المخيّمة على المنابر الأدبية والثقافية والجمهور الأدبي. ما كنّا نظن أنّ عقدين من الزمن كانا كافيين لأفول، أو ما يشبه أفول، نجم بهذا السطوع.
قد نردّ ذلك إلى مصائر الجميع، فالناس أبناء يومهم وشغلهم هو ما يتلاحق ويتتابع في وقتهم. للقدامى مع ذلك محل في الذاكرة وفي التاريخ، وهذا عمل ليس من يوميات ولا شواغل من يأتون بعدهم. إنّه محل عريق لكنّه ليس يومياً ولا متلاحقاً. هذا الكلام يصح بالتأكيد، لكن في حال نزار قباني لا يزال هذا الخفوت ملتبساً، إذ يتبادر الى الذهن أنّه ليس من عوادي الزمن فحسب، وليس مجرّد مرور للوقت.
كأنّ حضوره الجسديّ كان ضرورياً لبقائه مخيّماً وساطعاً
يتبادر أنّه كان في صميمه نوعاً من المراجعة، بل نوعاً من الردّة، إذ يقع في الظن أنّ شهرة نزار المدوّية آنذاك، كانت مُفحِمة لدرجة لم تؤثر الأصوات المعترضة عليها في لجمها أو النظر فيها. هذه الشهرة لم تكن فقط صنعة العالمين بالشعر، بل جمهور الشعر وجمهور القرّاء، الأمر الذي تركها ـ أي الشهرة ـ معلقة وعاصفة لا يمكن ردّها، أي تركها سؤالاً مؤجلاً.
في وسعنا القول إنّ شهرة نزار قباني ظلّت لذلك مُلتبسة، وقوتها جعلتها كذلك. لم يكن في المستطاع حينها مناقشتها أو التساؤل حولها. إذ اضطر ذلك متسائليها إلى الصمت، أو جعل تساؤلاتهم غير مسموعة، أو محصورة في دوائر ضيقة، لم تكن، مع ذلك، مستعدّة للتراجع، بل جعلها ذلك أكثر إصراراً على ردودها.
هذه الأوساط كانت أحياناً، عند نفسها، نخباً مضطهدة ومرفوضة من جمهور يزداد عامية مع الوقت. كانت، عند نفسها، نخباً تواجه عوامّ في الثقافة والأدب. كان نزار قباني، في ما يبدو، واعياً لهذه القسمة. لذا بدا شعره المتأخر، والسياسي بوجه خاص، أكثر جماهيرية، ونكاد نقول شعبوية. لقد كان يخاطب ويجتذب جمهوراً من القرّاء، له إرثه الغريزي ومحرّضاته ومزاجه، وكان لا يبالي بأن يكون مبسّطاً وخطابياً ومحرّضاً، إذا كان هذا يُبقيه في نجوميّته وفي سطوعه وشهرته.
يمكن أن نفهم من ذلك أنّ حضور قباني المدوّي، كان، من ناحية أخرى، نوعاً من التذنيب للثقافة ومن التأنيب الصامت الذي بقي مُعلّقاً ومحصوراً. والحال أنّ غياب قباني أفسح لهذا التذنيب وذلك التأنيب، أن يفعلا وأن يخرجا إلى الضوء. أما كيف فعلا فقد كان ذلك، في واقع الأمر، ما فعله الزمن.
غاب قباني عن الجمهور وعن يومياته، كأنّ حضوره الجسدي وتفاعله المباشر مع الأحداث الجارية كانا ضروريين لبقائه مخيِّماً وساطعاً. عند ذلك فعل التأنيب فعله. لقد أدى ذلك، في خفاء كلّي، إلى تحرّر من المسألة بكاملها، إلى خروج من المسألة القبانية التي، فجأة، ارتفعت عن كاهل الجمهور وصارت وراءه.
لقد بدأ نزار قباني شاعر حبّ، اعتُبر في حينه إباحياً، وشاعر امرأة اعتُبر أنه يعرّيها ولا يستحي من تفصيل جسدها، وفوق ذلك تفصيل علاقة الجنسين ووقفاتها وأوضاعها. كان هذا يومها خارجاً عن المألوف، بل كان، في ظرف تسود فيه التعبئة القومية والوطنية، والدينية أحياناً، تفرغاً لملاهٍ لا يجوز لشبّان ذلك الوقت أن ينصرفوا لها. في ذلك بالطبع شيء من الإرث الديني والاجتماعي.
بدا قباني حينذاك شاعر المراهقين، وليس هؤلاء بالطبع بؤرة المجتمع ولا صدارته. لا نعرف إذا كان ذلك عنصراً في تأنيب أحاط بشهرة قباني ومكانته، التي بقيت لذلك معلَّقة ولم تستمر في السطوع بعد رحيله. لكنّ من اعترضوا على ما اعتُبر إباحياً في شعر قباني، كانوا يتجاهلون عامدين تأصل هذا الشعر في الديوان العربي، من ناحية، ولم ينتبهوا إلى صلته بيوميات الفترة وتفاصيلها والحياة الجديدة، التي بدأت تتشكل في مجتمع ما بعد الحرب. لم ينتبهوا الى أنّه كان يلتقط جزئياتها وأدواتها ومواقفها.
هذه الحياة، التي بالتساوق مع سيرة قباني، كانت تتكوّن مع نشوء وصعود البرجوازية الدمشقية. لم ينتبهوا أيضاً إلى أنّ موسيقى الشاعر ولغته كانتا تمُتّان أيضاً إلى هذا الجديد، وكانتا لذلك جديدتين نضرتين. لقد حوّل قباني الرمزية الوافدة إلى غناء أبسط وأكثر إيقاعية. أما الغريب الذي، مع ذلك، لا يُستغرب، فهو أنّ ملكة قباني الإبداعية وسلطته على اللغة أتاحتا له أن ينتقل إلى موقع مضاد، إلى نوع من خطاب سياسي وشعر خطابي.
خطابية جديدة بقي قوامها تحريضياً وشعبوياً أساسياً وغالباً. من الشاعر العاصي المرتدّ الخارج عن المألوف، تحوّل قباني إلى محرّض شعبوي. هذا أيضاً بقي ابن يومه، وحين غاب صاحبه انتقل الجمهور إلى أيام أخرى وخطابات أخرى.
* شاعر وروائي من لبنان