"نبراسكا" لبروس سبرينغستين: أغنيات جرّدت جمال أميركا المزيَّف

12 أكتوبر 2023
بروس سبرينغستين خلال حفل في مونزا بإيطاليا، 23 تموز/ يوليو الماضي (Getty)
+ الخط -

صادف الثلاثون من أيلول/ سبتمبر الماضي، الذكرى الحادية والأربعين لصدور ألبوم "نبراسكا"، الذي يُعتبر العمل الموسيقي الأهمّ والأكثر عمقاً للمُغنّي وكاتب الأغاني الأميركي ذي الأصول الإيطالية الأيرلندية بروس سبرينغستين (23 أيلول/ سبتمبر 1949)، الذي احتفل، مؤخَّراً، بعيد ميلاده الرابع والسبعين، لكنّه أثار قلق جمهوره ومعجبيه إثر إلغاء جميع جولاته هذا العام، بسبب تدهور حالته الصحّية وخضوعه للعلاج من أعراض القرحة الهضمية، بحسب ما أعلنه موقعه الرسمي.

كما أبدى البيان الذي أدلى به المغنّي خلال الحفل الذي أُقيم في السابع من تموز/ يوليو الماضي، بلندن، قبل أن يُغنّي الأغنية المُستوحاة من وفاة جورج ثيس - أحد أقدم زملائه الموسيقيّين - بعنوان "آخر الرجال الصامدين" (Last Man Standing)، والمُستمدَّة من آخر ألبوماته "رسالة إليك" (2020)، أنّ مسألة الموت قد قضّت مضجع الموسيقار المُلقّب بـ"الرئيس"، حيث قال سبرينغستين: "الموت يُشبه الوقوف على قضبان السكّة الحديدية، والقطار يتّجه نحوك... يجلب الموقف وضوحاً مُعيّناً في الفكر والغرض والمعنى. إنّ هدية الموت النهائية والدائمة لنا جميعاً هي رؤية الحياة بشكل أوسع، وإدراك أهمية عيش كلّ يوم بيومه كلّما استطعت".

جاء التأجيل بعد شهر من أول جولة غنائية لسبرينغستين منذ ستّ سنوات. لم تكن تلك أول مرّة تُواجه موسيقاه فيها مِحَناً صعبة، بل لطالما كان ذلك بمثابة وقوده الإبداعي. حدَثَ شيءٌ مُماثل عام 1981، عندما واجه المغنّي البالغ من العُمر آنذاك اثنين وثلاثين عاماً أزمة وجودية بعد نجاح ألبوماته الخمسة الأُولى، واختتامه جولة بالغة النجاح لألبوم "النهر". وفي حين اعتُبِر نجم موسيقى الروك، مُكلّلاً بالجوائز والعناية النقدية، إلّا أنه كافح في تلك الفترة من أجل العثور على صوته الأصيل، وتساءل مراراً عن الغرض الحقيقي من فنِّه وحياته. استمرّ الأمر إلى أن شاهد المغنّي ذات ليلة فيلم تيرينس ماليك "الأراضي الوعرة"، وتغيّر الأمر بشكل جذري، فقد حدث ألبوم "نبراسكا".

خلال فترة ما بعد حرب فيتنام، وبينما كان الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون يُواجه محاكمات قضائية وأزمات سياسية، وكان وجهُه يظهر على شاشة التلفاز كلّ يوم تقريباً، كان معظم الفنّانين يُنتجون نوعاً من الفنّ المُحافظ أو "الصائب سياسياً"، الذي يخدم كأداة دعاية السياسيين، بمَن فيهم نيكسون نفسه. لذا قرّر الوقوف ضدّ التيار، وخرج بألبوم "نبراسكا" الذي جرّد فيه أميركا من ملابسها المصنوعة من الجمال والأحلام المُصطنَعَين، أميركا التي تبيع العزاء والأمل الزائفين للفقراء والمضطهدين والمحرومين.

كلماتٌ مُستلّة من جحيم أرضي تختزن احتجاجاً عميقاً

"نبراسكا" (1982)، ألبوم الاستديو السادس للمغني، يتألّف من عشر أُغنيات مُستوحاة من أحداث حقيقية، تم تسجيلها بشكل خام وبأسلوب بسيط باستخدام مُسجّل كاسيت ذي أربعة مسارات، وغيتار، وهارمونيكا، والقليل من الآلات الموسيقية الأُخرى. الأغاني العشر التي تم نقلها مباشرة إلى حامل الصوت دون أي تلميع أو تحرير في الاستديو كانت درباً جديدة لصاحبها، وأخذته أبعد من ذلك بكثير.

ما ظهر في "نبراسكا" كان صوتاً خافتاً ورقيقاً وصارخاً في الوقت نفسه، في حين استُمدّت كلمات الألبوم من جحيم أرضي مُروّع، وبعبارة أُخرى، من فوضى ورداءة الجوّ العام. قد تعطي أغاني "نبراسكا" مستمعيها شعوراً بأنها عملية تنويم للضمير، أو أنها مُخاطبات آتية من مكان ما بين الأحلام والواقع.

تقول كلمات الأغنية الافتتاحية للألبوم: "رأيتها واقفة في حديقتها الأمامية وتلوّح بعصاها/ ذهبنا أنا وإيّاها في جولةٍ، سيدي، ومات عشرة أشخاص أبرياء/ من مدينة لينكولن، نبراسكا، بمسدّس محفوف الرقم في حضني/ في الأراضي الوعرة في وايومنغ، قتلتُ كلّ شيء في طريقي". تتبعُها أنغام هارمونيكا مروّعة تُمثّل، موسيقياً، الاستسلام البارد للمتحدّث، وهو يسرد تفاصيل فورة القتل التي اقترفها تشارلي ستاركويذر ذو التسعة عشر عاماً، مع صديقته كاريل آن فوغات البالغة من العُمر أربعة عشر عاماً، والتي أودت، عام 1958، بحياة أحد عشر شخصاً. 

والحقيقة هي أنه يُمكننا جَمْع كلّ ما يُمكننا جمعُه من معلومات، عبر محاولة فهم مسوّغات الأشخاص المسؤولين عن الجُرم، وما الذي دفعهم إلى الحافة. وصف سبرينغستين أغاني "نبراسكا" بأنها أغانٍ عن "الانفصال والعزلة"، تتبنّى منظور الخارج عن القانون منذ جُرمه الأول، وتنتهي بتصويرٍ مُخيف لعقوبة الإعدام، مُتجاهلة تفسيراً مفادُه أن "هناك مجرّد خِسّة في هذا العالَم"، الأمرُ الذي يُعتبر تبسيطاً مُفرطاً لما يقدّمه المؤلّف والمغنّي لنا، مع تحديدها كنغمة لبقية السجلّ.

يُثبت خلال الألبوم أنّ إغراء الجريمة المُنظَّمة أكبر من أن يتحمّله "الرجل الصادق" في "أتلانتيك سيتي"، الذي تزيد ديونُه الضغوط عليه. تُصوّر أغنية "قصر على التل" (Mansion On the Hill) حكاية الاختلاف الأزلي بين من يملكون ومن لا يملكون، فتسرد ذكريات واقعية من طفولة سبرينغستين، عندما كان يُطارد أحلامه بعيدة المنال، ثم أصبح رجلاً يعيش في مثل هذا المكان. يجد جوني تسعة وتسعين عامل سيارات تم تسريحهم، يتوسَّل لعقوبة الإعدام بعد اعتقاله لإطلاق النار على موظّف لَيليّ.

هناك الدراما الثقيلة المتمثّلة في تفكّك الروابط الأخوية في أغنية "Highway Patrolman"، يليها التوتّر الذي يتراكم في أغنية "جندي الدولة" (State Trooper) التي تسرد قصة رجل يحمل سرّاً كان معه لفترة طويلة، وتذكّرنا صيحاته وعواؤه المختلّ بأصوات الأميركيّين الأصليين عندما كانوا يركضون نحو العدو في المعارك، ولكن أيضاً بصلوات الشامان الذي يُطهّر الأرواح من القوى الشريرة. بينما يظهر الفقر والعار والإحباط من خلال عيون طفل في سيارات مستعملة، وكذلك في أغنية Open all night، وهي الأغنية الوحيدة التي تحتوي على نغمة على طراز "هيلبيلي" (القروي)، وتحكي قصة رحلة الراوي الذي لا يذكر اسمه، طوال الليل، عبر ولاية نيوجيرسي الصناعية في محاولة للوصول إلى حبيبته.

في الأغنية قبل الأخيرة "بيت والدي" (My Father's House)، يتم عكس القصة التوراتية للابن الضالّ، وفي الأغنية الأخيرة "سبب للإيمان" (Reason to Believe) يخوض سبرينغستين تأمّلاً عدميّاً حول الفناء والحب وطقوس العبور الدينية. بينما تقطّعت السُّبل بعريس على ضفاف نهر في يوم زفافه، يعكس السطر الأخير بسخرية: "كيف لا يزال، حتى مع نهاية كلّ يوم مُحَصَّل بشقّ الأنفس، يجدُ الناس سبباً للإيمان".

وكما قال الموسيقار في إحدى المناسبات: "إذا اضطررتُ إلى اختيار ألبوم واحد، والقول هذا سيمثّلك بعد خمسين عاماً من الآن، فسأختار (نبراسكا)". ما يعني أنّ هذا العمل ليس مجرّد رسالة سبرينغستين الشخصية الموجّهة إلى نفسه، وإلى الشعب الأميركي، عام 1982، ولكن أيضاً إخباريّته إلى كلّ الناس، في جميع أنحاء العالم، حتى يومنا هذا.


* كاتب من البلقان مُقيم في الولايات المتّحدة

 
المساهمون