أسبابٌ عديدة تدفعنا لاستعادة الكاتب التركي نامق كمال (1840 - 1888)، الذي يصادف اليومُ، الحادي والعشرون من كانون الأول/ ديسمبر، ذكرى ميلاده؛ فإلى جانب كونه أحد أبرز روّاد عصر التنظيمات العثماني، فإنَّ "شاعر الوطن" أو "شاعر الحرية" كما كان يُطلَق عليه هو كاتب عثماني أثّر بشكل كبير على نُخَب الولايات العربية التابعة للأراضي العثمانية آنذاك. فمنذ أواخر القرن التاسع عشر، قام حسين سكوتي بتعريب مسرحية لنامق بعنوان "الوطن - أو سلسترة" عام 1898، وعُرضت بعد ذلك على مسرحٍ في القاهرة في أوائل القرن العشرين، حتى أنها كانت أوّل عرض لفرقة مسرحية ليبية عام 1908. كما ظهر أثر نامق أيضاً من خلال الترجمات؛ حيث ترجم له الشاعر العراقي معروف الرصافي رواية "رؤيا"، وتأثّر الرصافي به في كتابه "تمائم التعليم والتربية". كما قام الفلسطيني عبد الله مخلص بتعريب كتاب آخر له بعنوان "فاتحة الفتوحات العثمانية"، وقد صدر عن المطبعة الوطنية بحيفا عام 1909 إلى جانب ترجمات أُخرى.
ويُعدّ كمال أحد أبرز روّاد ما يُعرف في التاريخ العثماني بـ"عصر التنظيمات" (1839 - 1976)، الذي يُمثّل نقطة تحوُّل مهمّة في تاريخ الدولة العثمانية في مراحلها الأخيرة. وتقوم هذه الإصلاحات على فكرة تبنِّي مؤسّسات الدولة للحداثة الغربية. ولا يمكن فهم طبيعة عصر التنظيمات إذا نُظر إليه من النواحي السياسية فقط، فهو ثورة ثقافية، بمعنى ما، قادها بعض المثقّفين، وعلى رأسهم كمال، الذين رأوا أنّ حركة التنظيمات العثمانية استبدلت سلطة السلاطين بسلطة الباب العالي، أي سلطة الصدر الأعظم. وبسبب ذلك لم تحقّق الدولة العثمانية نهضة اقتصادية خلال تلك المرحلة، بالإضافة إلى أنها فتحت الباب على مصراعيه لتدخُّل الدول الأوروبية في الشؤون الداخلية للدولة العثمانية.
نُقل عددٌ من أعماله إلى العربية منذ أواخر القرن 19
إلّا أن نظرة بعض الدراسات العربية التي تتناول هذه الفترة تظلُّ قاصرةً بشكل أو بآخر، حيث تُحاول تصوير "العثمانيّين الشباب" الذين كان نامق واحداً منهم، باعتبارهم خارجين عن الشريعة والخلافة. ولكن إذا تطلّعنا إلى أفكار كمال، التي ظهرت في مقالاته وأعماله الأدبية أو أفكار "العثمانيّين الشباب" بشكل عام، سنلاحظ أنهم كانوا عثمانيّين متعصّبين، ينظرون بحنين إلى ماضٍ حمل في طيّاته العصر الذهبي للإسلام وعصر عظمة الإمبراطورية العثمانية، ولكن بعد أن تلقّوا تعليمهم في المدارس العثمانية الحديثة والجامعات الأوروبية تبنّوا الأفكار الليبرالية، وحاولوا التوفيق بينها وبين الإسلام، معتبرين أن تبنّي الحداثة الغربية هو عودة إلى روح الإسلام الحقيقية وليس إدخال شيء جديد عليه. وبمعنى آخر، أرادوا أن تقبل الدولة العثمانية الأساليب الأوروبية في الحكم من خلال الفصل بين السلطات، ولكن مع إعمال المُثُل والأفكار الإسلامية دون قبول الفلسفة الغربية، حتى أنَّ كثيراً من المؤرّخين الأتراك يصفونهم بأنهم كانوا "ليبراليين سياسيّاً، ومحافظين دينيّاً".
تربّى كمال تربيةً صوفية، وكان في رعاية جدّه لأمّه عبد اللطيف باشا، وكان يتنقّل معه بحكم عمله، حيث كان نائباً للوالي في تكير داغ، ولهذا السبب تلقّى تعليماً خاصّاً، وكان يتردّد مع جدّه على تكايا المولوية. بدأ بكتابة الشعر منذ الصغر، وقد تعلّم العربية والفارسية والفرنسية مع التركية، وهو ما أهّله للعمل في غرفة ترجمة الباب العالي بعد انتقاله إلى إسطنبول. وتعرّف خلال هذه الفترة على أبرز مثقفي عصره، من بينهم ضياء الدين باشا، الشاعر وأحد رجال الدولة. وكانت أشعار كمال حتى ذلك الوقت على نمط الشعر الديواني العثماني التقليدي، وانضمّ إلى جماعة شعرية تُسمّى "أنجمن شعرا" وربطته علاقة قوية بمؤسّسها الشاعر لاسكوفاتشلي غالب بك.
يصفه مؤرّخون أتراك بأنه محافظٌ دينياً وليبراليٌّ سياسياً
جاءت نقطة التحوُّل المهمّة في حياة كمال بتعرُّفِهِ على الشاعر والمسرحي إبراهيم شِناسي، الذي عرّفه على الثقافة الغربية، وأخذه ليعمل معه في جريدة "تصوير أفكار". من هنا بدأت أفكاره في التغيّر، ليس من الناحيتين السياسية والفكرية فقط، ولكن في نظرته للأدب الديواني أيضاً. وعندما كتب صديقُه القديم ضياء الدين باشا كتابه المعروف "خرابات" في ثلاثة مجلّدات، تتضمّن مختارات من الشعر العربي والتركي والفارسي، ومقدّمة تمدح الشعر الديواني وتحطّ من شأن الشعر الشعبي التركي، والشعر الحديث - المتأثّر بالمعايير الغربية آنذاك - ردّ كمال عليه في كتابين: "تخريب خرابات"، و"التعقيب على خرابات"، مدافعاً عن الشعر الشعبي والشعر الحديث. ويَعتبر النقاد أن كتاب ضياء الدين باشا ورد كمال عليه من أبرز المعارك الأدبية في عصر التنظيمات العثماني.
وعندما اضطر شناسي للسفر إلى باريس، أصبح كمال رئيساً لتحرير الجريدة من بعده. وقد دعا في جريدته إلى بناء المدارس في الأحياء الشعبية العثمانية، وطالب بتعليم الفتيات أيضاً في تلك المدارس. كما كتب العديد من المقالات السياسية الناقدة للأحوال السياسية والاجتماعية في الدولة العثمانية، وتسبّبت مقالاته في تلك المرحلة بالاصطدام بالدولة، واضطرّ أن يغادر إسطنبول متوجّهاً إلى باريس ليلحق برفاقه من "العثمانيّين الشباب".
تأثّر بعد سفره إلى باريس ببعض المفكّرين الفرنسيّين، وأبرزهم جان جاك روسو ومونتسكيو، وترجم بعض أعمالهما إلى التركية العثمانية مع بعض أعمال فولني وبيكون. وتبنّى المبادئ الأساسية للفكر السياسي الأوروبي، وحاول البحث عن هذه المبادئ في الشريعة الإسلامية. وفي هذا السياق، نجد أنَّ كمال يُساوي بين فكرة "سيادة الشعب" لدى روسو بفكرة "البيعة للخليفة". كما بدأت أشعاره ومسرحياته تمتلئ بمصطلحات مثل الحرية والوطن. وفي باريس بدأ بنشر مقاطع من "قصيدة الحرية" التي يرى كثيرٌ من النقّاد أنها أول قصيدة تحتوي على رؤية اجتماعية، وأنها لون جديد من الشعر التركي.
سخّر كلّ أعماله للبحث في أسباب تأخُّر الدولة العثمانية
كما بدأ في كتابة مسرحيته الأشهر "الوطن أو سلسترة" بعد عودته إلى إسطنبول عام 1870، وتُرجمت فور انتهائه منها وحظيت بإعجاب العرب والفُرس أيضاً، وعُرضت في أكثر من ولاية عثمانية منذ 1873 ولاقت رواجاً كبيراً، إلّا أنها كانت سبباً في نفيه إلى جزيرة قبرص لمدّة ثلاث سنوات. في المسرحية، مدح كمال دفاع الجيش العثماني عن قلعة سلسترة أثناء حربه مع الروس عام 1854. وقد وضع فيها مفهومه عن "وطن عثماني مُتَخَيَّل" فيه حكومة برلمانية ويشعر فيه كل العثمانيّين بالمواطنة والولاء للدولة، ويعود فيه الإسلام إلى صفائه الأول الذي سيقبل روح الليبرالية.
ويجب الإشارة في هذا السياق إلى أنَّ الخلط الذي يحدث في بعض الدراسات العربية حول هذه المرحلة يبدأ في الأساس من الخلط بين أفكار "العثمانيّين الشباب" وأفكار جيل "القومية التركية" اللاحق، والتي وصلت إلى ذروتها مع الجمهورية تحت حكم أتاتورك وإقصاء الإسلام من الحياة العامة. إلّا أن أفكار نامق كمال ورفاقه كانت تتعارض تماماً مع هذه الأفكار، حتى أن كمال نفسه كان يرى أن العودة إلى قواعد الشريعة هي التي ستحفظ الدولة والمجتمع العثمانيَّين.
لقد سخّر كمال كل أعماله للبحث عن أسباب تأخُّر الدولة العثمانية، والإصلاحات التي يمكن عملها في هذا السبيل. ولعل أبرز الأفكار التي لم تُطرح عربياً بشكل كافٍ حوله، هي اعتبارُ كثير من المؤرّخين ونقّاد الأدب التركي أنه أوّل من أورد إرهاصات فكرة "الجامعة الإسلامية" في أعماله الأدبية؛ ففي مسرحية "جلال الدين خوارزم شاه" يُصوّر شخصية جلال الدين آخر حكام مملكة خوارزم، وصموده أمام التتار، ومحاولاته لتجميع الإمارت والممالك الإسلامية لمواجهة التتار.
وتظهر هذه الإرهاصات أيضاً في روايته التاريخية "جزمي"، التي دعا فيها أيضاً إلى وحدة الأمّة الإسلامية من خلال تناوُله للحروب العثمانية الفارسية التي تُشتّت شمل هذه الأمّة كما يراها هو. كما عالج موضوعات اجتماعية في مسرحياته أيضاً، مثل ما فعل في مسرحية "الولد المسكين" التي تتناول مسألة الزواج في الدولة العثمانية، وله العديد من التراجم حول صلاح الدين الأيوبي، والسلطان سليم الأول، والسلطان محمد الفاتح وغيرها من الشخصيات التاريخية.