(قصائد إلى جدّتي التي رحلتْ هذا العام، ودُفنتْ في المقبرة اليوسفيّة بالقدس)
تاج
أجلس في الخارج مستنداً على جدار بيت جدّتي
فوقي النافذة مثل تاجٍ، تبتكر غرفةَ المعيشة
أسمع أصوات جدّتي وبناتها
مراقباً نملات الربيع أمامي
تهبّ الأسماء كسنابل تنفخها أفواههنّ
فتحمل كلّ نملةٍ اسماً على ظهرها
تدّخره للشتاء الثقيل
ثمّ يأتي اسمي من النافذة
ينادينه معاً كجوقةٍ، كلّ حنجرةٍ تصنع مقطعاً
يحملني على ظهره، يخترق بي الزجاج
إلى مملكةٍ تكوّر قناديلَها دموعُ النساء.
■ ■ ■
خالاتي
بنات جدّتي يُحِطْنَنِي كالهالة حول الجسد
النافذة الداخليّة قرب التلفاز ترتعش لهبَ
عود كبريتٍ في يد أمّي، تشعل به الشموع تحت الضرع
أحفر العتمة بعينيّ الراقصتين على إيقاع النافذة
فيلجُ نهرٌ حليبيٌّ كخيوط الحرير في يد جدّتي
إبرةَ الزجاج، وتُنسَجُ الفساتين لدموعهنّ المغبّرة.
■ ■ ■
تفّاح أصفر
تجلس جدّتي في المساء أمام النافذة الكبيرة
تقطّع لنا التفّاح ثمّ تضعه على الطولة
مثل نارٍ تتجمّع حولها أجساد بناتها
يزيد وجودنا صمتها حدّةً
كأنّنا صخورٌ تمتصّ موجاتٍ تخرج من ثوبها
ولا تجد شاطئاً تمنحه رذاذها
ينعكس طيف جدّي في زجاج الصحن
يشكّله دفء الأيادي الممتدّة نحو الثمرات
وحين لا يبقى سوى قطعٍ متروكة
تُضاء صورة جدّي بالصفرة في القشور
فتتذكّر جدّتي الحيّة التي قرصتْه في ذراعه
حين بصقت السمّ من الجرح
فأمسكتْ، قرب الأرض، ساعة رملٍ تسقط
تمدّ يدها كي تحجب الشحوب عنه
لكنّ جسد حفيدها اللاهي يصطدم بالصحن على الحافّة
فيتكسّر على البلاط ألف طنّانٍ من البنّور.
■ ■ ■
عيد الميلاد
تضعين الملعقة في فمي
فتتحرّك البالونات على الحائط
مثل بيوضٍ يقلّبها جناح الأمّ
تمسكين يدي
نلوّح لِسَنَتي الخامسة
بينما تغادر في دخان الشمعة
يطارد بعضُنا بعضاً في المكان
تهزّ صرخاتُ لعبنا
البلالين الملوّنة
ظلُّكِ
يحفظ الأجسام في كتلاتها
يمنعها أن تتصادم خارج
الجاذبيّة
يناديكِ أحدهم من الدرج
بثلاثة أسماءٍ
فتغادرين الغرفة مسرعةً
يرتطم بعضُنا ببعضٍ
ونحن نحاول أن نتلقّف
الطيور الساقطة من الأعشاش.
■ ■ ■
حياة
أعلام البلدان التي زرتِها
تصفق في غرفتي أجنحةً بلا طيور
كنتِ تحضرينها لطفلٍ
يهوى التمدّد نهراً
فوق خريطة الأرض
أتذكرين الرصاصة التي حفرت
درباً في خشب سرير طفلتك
عندما سقطت القدس
كما سقط ثوبك
من حبل غسيل الربّ؟
تجمّع النثار نجمةً مطفأةً على القماط
فتاه المجوس في الطريق
كنتِ تكسرين أقفاصاً
تحبس الظلالُ فيها أجسامها
تسمّين النافذة "بنّور"
الغرفة "بيت" والكأس "كبّاي"...
كأنّ فمكِ أمام دهشة الطفل
عشٌّ تولد من بيوضه الملوّنة
طيور الطنّان
كان شعرك مسرّحاً على الدوام
بلا شعرةٍ بيضاء واحدة
كأنّه بيتكِ المتوهّج كبنّورِ
نوافذَ غارقةٍ بالضوء
ولو لعب أحفادُكِ بدمى
الرماد على السرير
وحدكِ كنت تحملين على ظهرك
كيساً ممتلئاً بغياب الأب:
حملتِ أطفالك الخمسة
حملتِ حجارة البيت
حملتِ الكواكب مطفأةً
على بعد سنواتٍ من الشمس
ثمّ سقط موتك على ظهرك كقشّة
خيط إلى عريك علم "المنفى
المستحيل"
تمدّدتِ في قبر زوجك
إذ يطفو شراعه فوق التراب المقدّس
ليصغي كلٌّ منكما إلى وردة الأنفاس
تتفتّح حوله مثل قبابٍ من الذهب.
■ ■ ■
قطار
شقيقاتكِ ركبن القطار ذاته
نحتَ الدخان حدقاته في رئتيكِ
فحفظتِ طريق الثلج
نُدفةً نُدفة
قبل أن تقطعيه كمن يغوص في مرآة
ورغم ذلك، ظللتِ تثقين بذاكرتك
عندما أدركتِ أنّ القطار انطلق
دارت العجلات ككرةٍ أرضيّةٍ
فوق إصبع إلهٍ هندوسيّ
نسيتِ النافذة مفتوحةً
فهربتْ طيورٌ منسوجةٌ بإبرتك
واختبأتْ في الهواء خلف النُّدَف.
■ ■ ■
مناديل
تعجّ الطرقات بكِ
اسمُكِ على كلّ التذاكر
الأشباح يخرجون من دخان القطارات
ساعلين أيّامهم سلاسل
لا تفلت العجلات التي تدور
في كلّ وداعٍ نحاول أن نحنّط ملامحكِ
على مناديلَ نلوّح بها أمام النوافذ.
■ ■ ■
مرساة
كنتِ توبّخين سُعاد لأنّها تطفئ السجائر في خلاياها
لأنّها تصنع ثقوباً في رئتيها وفي الأثواب
وبعد أن انتهى الموت من عمله في الطابق الأرضيّ
صعد الدرجات إلى بيتك
جاء قبل موعده فاستراح في الرئتين
أشعل سيجارته وانتظر غروب الشمس
كي يضع قلبك في كيسه قرب قلب أختك
دخان السجائر صعد كصرخة عُقاب البحر
وحاصر النجم الأخير خلف الزبد
ابيضّت الرئتان من الرماد مثل شعابٍ مرجانيّةٍ
تلجأ إليها كائناتُ المحيط التي تصنع للكوكب الهواء
تخبّط الساكنون شعابك الحمراء فدار حولهم جوف الحوت
خبّأ الموت قلبكِ في صندوق أحجاره الكريمة
طفا جسدكِ فوقنا مثل شراع
بعد أن سقطتْ المرساة الثقيلة
في الضباب
خرجتِ من ثيابكِ القديمة
ودخلتِ ثوب الشبح.
■ ■ ■
عتبة
عندما عبروا بجسدكِ إلى الثلّاجة
كنّا مكدّسين على العتبة خارج الحياة والموت
كان المكان مُعتِماً سوى من لمبةٍ تتلعثم
كانت الدموع تسقط منّي دون أن أبكي
كعرَق جسدٍ يجرّ جذوع الأشجار تحت الثلج
كانت إحدى بناتك تئنّ قربي دون أن أستطيع تمييزها
بعد أن أذابت نظرتُكِ الأخيرة ملامحكِ التي ورثتْها وجوهنّ
كانت روحي عالقةً في شرنقة حنجرتي
تلفّها خيوط الأنين التي غدتْ نحيباً...
ثمّ صرخةً أطلقتْ الفراشةُ من قفصها
فجذّفتْ بجناحيها مثل غريقٍ نحو الفنار
إذ يتّسع عيناً تنتظر نظرتها العائدة
وحين أصبحتْ على بُعد قطرة ملحٍ من أن تذوب في المصباح
وضعتْ أمّي يدها على وجهي
فأطلّتْ ملامحكِ من أصابعها
وعادت روحي إلى جسدي.
■ ■ ■
غربة
جاء والدُكِ من لبنان إلى القدس
ورغم أنّكِ وُلدتِ هنا
كنتُ دائماً أراكِ في سفَر
(حتّى عندما كانت سفنٌ تغرق في المسافة بين ركبتيكِ)
وأفكّر أنّ كلّ مسافرٍ سيعود إلى وطنه
ولو طالت إقامته
وحين حان الوقت
حُمِل قاربكِ على أكتاف الأمواج
وكنتُ موجةً تلهث تحت ثقله
تزيدها عين الشمس ملوحةً
كنتُ أركض كي لا تطول غربتُكِ بيننا
كي تتخلّص سُلحفاة البحر من بيتها على ظهرها
وتعود إلى بيضتها في الرمل.
■ ■ ■
حقائب
كم حقيبةً أضعتِ لتصلي المحطّة الأخيرة؟
حقائب أسماء
حقائب صور
حقائب ثياب
حقائب بلدان
وحقيبة قلوب تئنّ على العتبة
دخلتِ عاريةً مقصورتكِ الضيّقة
فابتلع البحر اليابس القطار
وطفا اسمكِ على الزبد.
■ ■ ■
عائلة
كان قلبُكِ زورقاً
وكنّا نجذّف فيه
عند كلّ ضربة مجدافٍ
كانت الريح تشتدّ
وكنّا نجذّف
كي ننقذ الزورق
كي ننقذ أنفسنا
كانت الريح تتناسل من ذاتها
وكنّا نُوْدِعُ مجذّفينا الميّتين
موجةً مالحة
ثمّ قصمت العاصفة المركب
تجمّعنا على الخشبة الباقية
حتّى حملتنا إلى الشاطئ
فدفنّا قلبَكِ في الرمل
ومضى كلٌّ منّا
في درب.
■ ■ ■
يانوس
هناك، عندما وضعوا جثمانكِ في القبر
وأوصدوا الباب وأهالوا التراب
تجلّى يانوس لي
تحت سماءٍ صافيةٍ تمتدّ كحفرة
يدان تلعبان الورق ضدّي
وجهان يحدّق أحدهما في أوراقه
والآخر في يدِي
بيننا على الخشب:
الوقت
البدايات، المخارج
الطريق
المداخل، النهايات
طُردتُ من الثنائيّات جميعها
رقشتِ الخسارةُ عينيَّ بزُرقة سعاد
تجمّدتُ نظرةً على عتبة البرزخ
خارج أعين الإله.
■ ■ ■
صلاة
حملنا جسدكِ إلى المسجد القبليّ
وضعناه تحت نوافذَ مرقوشةٍ
وجدتُني أُحدّق إليها
إذ ينسج اللانهائيُّ ثوبه بإبرة ضوئها
فاعتذرتُ إلى موتك
صلّينا الجنازة على جثمانك
كنتُ محاطاً بالغرباء
كانت صلاتي طائراً
خلّفه السرب
وحيداً
انتظرتُ ثلاثة أيّامٍ
دخلتُ غرفتك
أغلقتُ بابَكِ عليَّ
ووقفتُ تحت أيقونتك
حدّقتُ في ملامحكِ البسيطة
اختبأتُ في دموعي
وصلّيتُ لكِ
لأُمّي التي في السماوات
مَن تراني أصابعها
مهما أعتمتُ تحت ريشي.
■ ■ ■
نقطة التلاشي
شاهدتكِ على قمّة الجبل
تطوّق رأسك هالة القمر
يطغى أزرق ثوبك على أحمره
كنتُ أحدّق إليكِ في السفح دون أن ترَيني
فمي قفص حمامةٍ رُبِطَتْ في قدمها أسئلةٌ بلا جواب
كان وجهك دلواً ينهل السحاب أمامه
فينجرف بعيداً
كسفينةٍ تطفئ قناديلها السبعة
واحداً بعد الآخر
إلى أن تلج في خرم إبرة الأفق.
■ ■ ■
الكنز
لا أريد أن أكون سفينةً
كنزُها
خلوّ الذاكرة من
مقعدك
أريد أن أثبّت جسدك
بحبالٍ تلتفّ حول
السارية
وحدكِ ستسمعين
غناء السيرينات في
قلبي
وحدكِ ستحدّقين
حين تلتهمني
بفمها النحاسيّ
العاصفةُ.
■ ■ ■
كواكب
قرّبَنا الموتُ من بعضنا
لم نتحدّث منذ زمنٍ
لسانُك
نقرَه طائرُ الساعة الخشبيّة
كلمةً فكلمة
مِثل إبراهيم
الذي بحث عن إبرة ربّه
في رمل النجوم
أنقلُ جثمانك
من كوكبٍ إلى آخر
تعلّمتُ لغة الكواكب سريعاً
كنتُ فرساً يركض على الشاطئ
بالمعاجم على ظهره
يراقبه طفلٌ لازورديّ
يفهم ما يُقال جيّداً
دون أن يجيد الكلام
قرّبني الموت منكِ
كأنّي موسى وكأنّكِ شجرته
لا نار في الوادي تنطق ألسنتها البيضاء
لا نار سوى التي تحرق إبراهيم
تحت الكواكب الآفلة.
■ ■ ■
وشم
بيتكِ يستيقظ عند الفجر
ويشرب من نبع قصيدتي
بيتُكِ وشم ذراعي
أمدّها إلى جيوب الليل
وأقبض على كواكب
يُزهر فيها ضوء النوافذ
أشقرَ.
■ ■ ■
كسور
ناقصةٌ العودةُ إلى النبع
خطونا في النهر
خَطَتِ الذكرياتُ التي تقودنا
وفاضت الرياح
من قناديل جفّ فيها زيتُ الأهداب
نفتِّتُ الخبزَ فوق خطواتنا المالحة
كلّ خطوةٍ في البيت
تطردنا إلى الخارج
فنحدّق إلى قلبه
من كسور النافذة.
* كاتب وشاعر فلسطيني من مواليد القدس عام 1992