منذ سنوات والأعمال التي تنتمي إلى ما يُعرَف بـ"التاريخ الشعبي" تحظى بنجاح واهتمام ملحوظين في المكتبات، حيث يبدو هذا النوع من التأريخ ــ الذي يرتبط باسم المؤرّخ الأميركي اليساري هوارد زن وكتابه "تاريخ شعبي للولايات المتحدة" (1980) ــ وكأنّه يُشبع رغبة القرّاء في معرفة الماضي لا كما ترويه السرديات الرسمية المُهيمنة، بل كما تعيشه المجتمعات.
يأتي كتاب "تاريخ شعبي لكرة القدم"، للصحافي الفرنسي ميكائيل كوريا، ضمن هذا السياق من الأعمال التي "تؤرّخ من الأسفل". كتابٌ عرف نجاحاً في المكتبات ولدى وسائل الإعلام في فرنسا منذ صدوره عام 2018، وهو ما دفع إلى إعادة طباعته بعد أقل من عامين في نسخة جيب شعبية.
ولا يبدو هذا التلقّي الإيجابي محصوراً بفرنسا، إذ حظيت النسخة العربية من الكتاب، التي صدرت لدى "دار المرايا" في القاهرة نهاية 2022 (ترجمة محمد عبد الفتاح السباعي)، باهتمامٍ في الدورة الأخيرة من "معرض القاهرة الدولي للكتاب"، والتي نال فيها العمل جائزة أفضل كتاب جديد مترجَم يُقَدَّم في المعرض.
يدرس الأدوار التي تلعبها كرة القدم في فلسطين ومصر والجزائر
وإذا كانت كرة القدم قد باتت رياضةً تعطي صورة مصغّرة عن الرأسمالية المتوحّشة، حيث أسعار اللاعبين الخيالية لا تمتّ إلى أي منطق، وحيث اللعبة باتت استعراضاً وصناعةً وتجارةً أكثر من كونها مناسبة رياضية للمتعة، فإن ميكائيل كوريا يذهب أبعد من هذا الراهن ليُرينا أن هذه الرياضة لم تكن دائماً كذلك، وأنها قد تكون، في كثير من الحالات، أقرب إلى المقاومة والنضال الاجتماعي والسياسي من كونها تعبيراً خالصاً عن العقلية الرأسمالية.
هذا النضال كان موجوداً منذ تحوّلت هذه الرياضة إلى ممارسةٍ شعبية في النصف الأوّل من القرن الماضي، حيث خرجت من عوالم الجامعات المرموقة لتصبح رياضةً تُقاوم من خلالها الطبقاتُ العاملة "النظام البرجوازي الحاكم"، وتسعى من خلالها إلى تحقيق نوع من "العدالة الشعبية" ومن الاعتراف.
لكنّ "الساحرة المستديرة" ستدخل في الوقت نفسه عالم الصناعة الرأسمالية، كما يذكّرنا المؤلّف، الذي يتوقّف عند تحوّلها إلى موضوع لرأس المال والدعاية والإعلام، وهو ما تطلّب، منذ البداية، ترويض الجسد والروح على هذا الدور: إذ لم يعد في إمكان "اللاعب المحترف" أن يكون مترهّل الجسد، أو أن يقول ما يخطر في باله أمام وسائل الإعلام، بل عليه أن يضبط مظهره وخطابه إذا ما أراد الدخول في الماكينة الصناعية ـ التجارية ـ الإعلامية التي بُنيت حول هذه الرياضة.
هذا الخطّ المتصاعد لم يُلغِ تماماً المظاهر العديدة لممارسة الكرة بعيداً عمّا تريد العقلية التجارية المُهيمنة، والكتاب، في الواقع، هو تأريخٌ للعديد من هذه المظاهر، مثل ولادة كرة القدم النسائية في بريطانيا وانتقالها إلى أماكن أُخرى من القارّة الأوروبية أو حول العالم، ومثل وجود صراع طبقي واجتماعي في كرة القدم الفرنسية، ولا سيّما بعد الثورة الطلابية عام 1968، وكذلك مثل حيازة كرة قدم الشارع على المزيد من الأضواء، وغير ذلك من مظاهر.
كما يخصّص ميكائيل كوريا قسماً واسعاً من كتابه لدراسة ما يمكن تسميته بـ"الحالات" التي تتمظهر، أو سبق أن تمظهرت، فيها كرة القدم كنضالٍ أو حِراك اجتماعي. وهو، في هذا السياق، يدرس أمثلة عديدة تهمّ القارئ، وأبرزها الدور الذي تشغله كرة القدم، لدى الشعب الفلسطيني، في استعادة المكان والساحات من المستعمِر الصهيوني وفي مواجهته، إلى جانب توقّفه عند دور جمهور فريق الأهلي المصري خلال مظاهرات ساحة التحرير عام 2011، ولجوء الشعب الجزائري إلى كرة القدم لمواجهة الاحتلال الفرنسي للبلاد، إلى جانب أمثلة أُخرى مثيلة من تركيا وإيطاليا والبرازيل وجنوب أفريقيا وغيرها.