في سيمنار "الفقهاء القدامى وأسئلة الشرع والعرف والمجتمع: قراءة سوسيولوجية في الكثافة الاجتماعية لفتاوى مغاربية" الذي نظّمه "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" أمس الأربعاء، أشار أستاذ علم لاجتماع التونسي مولدي الأحمر إلى إهمال العلوم الاجتماعية والأنثربولوجية القيمة المنهجية لمدوّنة الفتاوى في دراسة القضايا المعاصرة لمجتمعاتنا، خاصة أسئلتها الكبرى مثل سؤال التحديث/ الحداثة.
وأوضح أن الموضوع ليس جديداً إذ اشتغلت فيه المعرفة الكولونيالية االمغاربية الهجينة في سياق محدّد حيث تحدّث عنه جاك بيرك ويفي بروفنسال وروجي إدريس وغيرهما، كما تشتغل اليوم على موضوع الفتاوى عدّة فرق بحثية في الجامعات الغربية، ويمكن تصنيفها في أربعة أنواع؛ موضوعية تبحث عن معلومة محدّدة لخدمة هدف معرفي تقع مدونته الأساس خارج مجال الفتاوى، أو للاستشهاد ببعض فتاوى هذه المدونات، أو تمّ استخدامها في إطار الدراسات الإسلامية التقليدية التي تشتغل بالمنطومة الفكرية نفسها لكتب الفتاوى، إلى جانب بعض الدراسات الحديثة التي اكتفت بإعادة ترتيب الفتاوى بحسب مداخل تصنيفية حديثة منها الحياة الاقتصادية والحياة الدينية والحياة الاجتماعية وهكذا
كما لفت الأحمر إلى أنه تمّ الفصل المنهجي والمؤسساتي والإبستمولوجي بين العلوم الاجتماعية وبين ما يسمّى العلوم الشرعية في العالم العربي، مع الإشارة إلى أن هذه العملية جرت بحدّة أقل في البلاد المغاربية، لذلك لا نجد مشروعاً بحثياً ذا صلة بالمدونات الفقهية، بينما قامت بعض البلدان العربية التي ادعت تطبيق الشريعة أو أن الشريعة أحد مصادر التشريع الرسمية واعتبرت فيها الهيئات التي تخصّصت في تدريس العلوم الشرعية أنها هي الوحيدة المخولة للخوض فيها، وبذلك أُخرجت المدونة الفقهية معرفياً ومعيارياً وسياسياً من حقل التفكير السوسيولوجي والأنثروبولوجي.
تساءل المحاضر حول إمكانية الخوض في جينولوجيا المجتمع المدني دون الاعتبار لفتاوى الأوقاف
ونبّه إلى أن ثورات الربيع العربي أعادت إلى الواجهة وبشكل ملحّ مطلب التحرّر المعرفي الذي ظهر في سياق الاستقلال عن الاستعمار ثم خفت بريقه بعد ذلك، من خلال استرداد القدرة النقدية لطرح السؤال المعرفي الكوني من داخل همومنا الحياتية من دون قطيعة مع التاريخ الفكري العربي ومنه المدونة الفقهية، كما عبّر الباحث ساري حنفي في كتاباته عن مشكلة الوصل والقطع بين العلوم الشرعية وبين العلوم الاجتماعية.
وتساءل الأحمر إن كان يمكن اليوم الخوض في جينولوجيا المجتمع المدني في العالم العربي من دون الاعتبار لمدوّنة فتاوى الأوقاف، مشيراً إلى أن هناك قوى سياسية في بلدان "الربيع العربي" تطالب بالعودة إلى الشريعة الإسلامية أو التنصيص عليها في الدساتير الجديدة كمصدر من مصادر التشريع، ولكن ما هو مفهوم الشريعة بالنسبة إلى الإسلاميين أو الحداثويين، وهل يمكن تحديد المفهوم بشكل معرفي نقدي دون دراسة مدونات الفتاوى.
يضاف إلى ذلك مطلب العدالة، بحسب المحاضر، الذي تساءل أيضاً إن كان هناك مفهوم كوني للعدالة الاجتماعية، مرجحاً الإجابة بـ لا، ما يتطلب تأصيله العودة إلى دراسة المدونات الفقهية الخاصة بالإفتاء ليكون المفهوم نظرياً على علاقة جينولوجية نقدية بالمدونة الفكرية والمعيارية للحضارة الإسلامية، وأن يكون أخلاقياً ذا دلالة تجد لها قبولاً لدى الجزء الأكبر من مجتمعاتنا التي تشهد متغيرات كبرى تضع هذه المعايير موضع سؤال أيضاً.
ويرى أن المنظومتين الإسلامية والعلمانية الوضعية تعيشان اليوم أزمة حقيقية، فلا المنظومة الأولى لا تزال قادرة على إضفاء سحر اللاهوت على الوجود الاجتماعي، ولا المنظومة الثانية لا تزال قادرة على الوعد بالجنة على الأرض.
ويدرس الأحمر نماذج من الفتاوى المغربية ومنها ما وضعه أبو العباس أحمد بن يحيى الونشريسي في كتابه "المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى أهل إفريقية والأندلس والمغرب"، حيث يخلص إلى أن مجتمع الفقه والفتوى يخوض في الأساس في قضايا حضارية، فالأوقاف في الشروط الفقهية تفترض الملكية الخاصة، مورداً العديد من الحالات والنماذج التي تشير إلى تطوير مدارس الفقه وصلتها بنشأة الدولة الحديثة.